باسمة وقططها
من يتابع كتابات باسمة العنزي في خطها البياني الصاعد، سوف يتلمس وعيها المتنامي حول العلاقة بين الكتابة والقارئ، ولزوم كونها علاقة تجاذب وتناغم ومواكبة لإشكالات الحياة وهمومها. ويبدو أن الكاتبة قد تنبهت لهذا الشرط باكراً، وخاصة بعد تجربتها الأولى في مجموعتها (الأشياء)، التي لم تكن سوى خربشات غامضة على حائط هلامي، على حد تذكّري لقراءة ممعنة في البُعد. ولم تستطع (الأشياء) بهذه الصفة المربكة أن تسجل لباسمة سبقاً أو علامة، ولكن كانت – ربما - محفزاً للخروج نحو أفق آخر للكتابة أكثر صلابة وجدوى. أتت بعد ذلك مجموعة "تغلق الباب على ضجر" ورواية "حذاء أسود على الرصيف" وأخيراً رواية "قطط انستغرام" لتضع مجتمعةً قدم باسمة العنزي على طريق مستقيم واضح المعالم، يعززه وعيٌ متوقّد بسمات مجتمعها وتضاريسه النفسية والاجتماعية وشخصيته الاعتبارية. وبذلك استطاعت أن تقبض باقتدار على ثيمة فنية تخصها هي، وتصلح أن تكون مشروعاً مفتوح النوافذ على كتابات مستقبلية أخرى.
والكتابة لدى باسمة العنزي في سردياتها السالفة ليست مجرد تجميع لحكايات أو تصوير للقطات هاربة، بل هي اشتغال متأنٍ على نسيج متوازن ومتصاعد، حيث لكل مشهد موضعه ولكل كلمة مكانها، ولكل شخصية امتدادها في منطق القص، دون حشو أو ترهلات أو استسلام لإغراءات الحكي. وأعتقد أن الكاتبة من أولئك الذين يمعنون بالتدقيق والتعديل والتشذيب حتى يستوي النص ويكتمل، ويأتي كخلاصة نقية دون شوائب أو زوائد. وعليه فإن إصدارات باسمة عادة ما تكون خفيفة وقصيرة وقليلة الصفحات، دون إخلال ببنية النص أو متعة القراءة. في رواية (قطط انستغرام)، هناك ملامسة قريبة لحياة مجتمعنا المحلي آنياً في ظل ثقافة (السوشيال ميديا)، وفيها محاورات مباشرة مع ظواهره ومستجداته دون تجريح أو صراخ أو وعظ، وأيضاً دون الدخول في مشاهد مخلّة أو أوصاف مثيرة، رغم وجود شخصيات قد تجر إلى هذا اللون من الوصف. ولكنها هندسة الأسلوب واللغة عند باسمة، التي تكتفي بالإشارة أو التلميح الراقي دون الدخول في أوحال لا تضيف إلى النص أكثر مما تعيبه. أما مقولة البعض إن الاستغناء عن الإثارة أو المشاهد الإيروتيكية سيخل ببنية نصوصهم فذلك أمر يحتاج إلى حوار متعقّل وإعادة نظر. في الرواية تعود الكاتبة إلى موضوع الفساد مرة أخرى، متمثلاً في الشخصيات الانتهازية وسرّاق المال العام وفي انعدام المحاسبة وانتهاك القوانين، وأخيراً في الحياة اليومية المتخمة بالمظاهر والرفاه المزيّف، وفي الشخصيات المتخمة بالفراغ أو البطالة أو النرجسية أو الشعور بالاضطهاد وقلة الحيلة. وإذا كانت شخصية فتاة الانستغرام التي قادتها البطالة واليأس إلى توظيف قطها (سبايس) ليكون العين الناقدة والفاضحة لعيوب الواقع الاجتماعي، فإن شخصيتي (أحلام) و(منصور لافي) كانتا تمثلان الضلعين المتوازيين لثنائية الأصالة والزيف كمظهرين من مظاهر الواقع الاجتماعي حاليا. لقد كانت الأصالة والزيف متنافرين في الماضي، (فأحلام) ابنة العراقة والبيت الأصيل والرجل الطيب ذي السمعة الناصعة، لم تكن لتقبل أو لتلتفت للفتى المراهق ذي السمعة الفائحة برائحة الجنوح والبذاءة والعدوانية والضياع. ولكن سرعان ما تتبدل الأحوال خلال عقدين من الزمان، فترى (أحلام) نفسها تعيش على أطلال عراقة مضمحلة، في حين يأخذ نجم (منصور لافي) بالصعود على سلم الانتهازية والوصولية والسرقة والنصب، نحو مواقع مالية واجتماعية وسياسية رفيعة! ولعله من السخرية بمكان أن تتخلى (أحلام) عن عراقتها الغاربة وتعيد النظر في مسألة قبول (منصور لافي) في حياتها! حين تميل كل مظاهر حياتها الماضية إلى التهافت، وحين يخلب لبها بريق المال وحياة الرغد، فتستعدّ لطقس القبول بقيم (منصور لافي) والزواج به، غاضّة النظر عن كل ما يشين في سيرته ومسلكه سابقاً ولاحقاً! وهكذا تصور الكاتبة المأزق الحالي الذي يشوب سيرة حياة المجتمع، ويدفعه نحو التعايش مع اختلالات قيمية لا يستطيع لها رداً. أما فتاة الانستغرام، العين الشاخصة في العيوب والمفاسد فسوف تنتهي إلى اليأس والعزلة، وأما قطها (سبايس) فيموت مسموماً تحت نخلة في ليلة عقد قران (أحلام) على (منصور لافي)! إن مفتاح المتعة في رواية (قطط انستغرام) يتمثل بلا شك في توظيف الكاتبة لفكرة الانستغرام، من حيث كونه الوسيلة الإلكترونية التي تدلل على معايشة اللحظة الاجتماعية الراهنة، ومن حيث كونه النافذة الواسعة التي يُنشر خلالها كل ألوان الغسيل، الوسخ والناصع والأسود والأبيض. وأعتقد أن الكاتبة تعاملت مع هذه الثيمة بذكاء لافت، سواء باختيار الوجوه الانستغرامية ومسمياتهم الطريفة، أو بما يكتبونه على حساباتهم وينشرونه في فضاءات افتراضية. ومن خلال هذه الثيمة الانستغرامية أمكن للرواية أن تؤسس بنيتها الفنية وتتنامى باطّراد.