على الرغم من مرور قرابة الـ40 عاما على صدور قانون تنظيم القضاء بنسخته السابقة والمعدلة، والذي كان يمثل حينها تطورا بسيطا في التعامل الحكومي مع السلطة القضائية، وعلى الرغم من احتفاظ الحكومة بصلاحيات واسعة في ممارسة  التعيين والترقية والندب للقضاة وإشراك عضو حكومي في عضوية المجلس الأعلى للقضاء يفترض فيه أن يلبي رغبات ومطالب المجلس الأعلى للقضاء، فإن هذا القانون لم تثبت ملاءمته مع سنوات من التطبيق مع الواقع العملي طوال تلك السنوات التي شهدت تدخلات إدارية من قبل الحكومة في الشأن القضائي، وكانت سببا في تأخير عملها وتطورها.

Ad

الشكوى من التدخلات

واشتكى القضاء طوال تلك السنوات من التدخلات الإدارية التي أقدم عليها عدد كبير من الوزراء المتعاقبين على تولي حقيبة وزارة العدل، وطالت تلك التدخلات عمليات التعيين والندب وتجاوز قرارات المجلس الأعلى للقضاء، بل إن بعضها خلق أزمات داخلية إدارية في القضاء بسبب تدخلها في الشأن الإداري، بدعوى تنظيم العمل الإداري بذريعة أنه المسؤول الإداري والمالي عن القضاء!

وقرابة الـ55 عاما على صدور الدستور الكويتي، لم يشأ للقضاء الكويتي بعد أن يتنفس ويطلق جناحيه نحو الاستقلال الكامل، بعد أن حبست حريته منذ نشأة الدستور، وتمت مصادرة حقوقه في أن يكون سلطة بعينها، كما أراد لها الدستور ذلك، شأنها شأن السلطتين التنفيذية والتشريعية!

وبعد مرور تلك السنوات الطويلة من تطبيق القانون الحالي، ارتفعت الأصوات القضائية للمطالبة بإصدار قانون يوفر الاستقلال الإداري والمالي لتحقيق حلم ميلاد السلطة الثالثة بعد 55 عاما من إيرادها في الدستور كسلطة، فكانت أولى الخطوات القضائية هي إدخال قرارات المجلس الأعلى حيز التنفيذ، لكونها صادرة من المجلس الأعلى للقضاء، إلا أن الحكومة رفضت تنفيذها بذريعة الدراسة.

واستمرت تلك الدراسة لمطالب القضاء لأكثر من 4 سنوات متصلة، الأمر الذي دفع ما يزيد على 200 قاض إلى اللجوء للقضاء عبر دائرة طلبات رجال القضاء في محكمة التمييز للمطالبة بإصدار أحكام تؤكد أحقيتهم في المطالب والقرارات التي أصدرها المجلس الأعلى للقضاء، فما كان من القضاء إلا أن يستجيب لتلك المطالب، لتخلق تلك الأحكام نهجا قضائيا جديدا في حصول القضاة والمستشارين على حقوقهم ومطالبهم الخاصة بإنشاء صناديق للضمان الاجتماعي والصحي والمعاش التقاعدي.

المشروع الحكومي

وما هي إلا أشهر من إصدار تلك الأحكام القضائية، حتى تعلن الحكومة سعيها لتنفيذ الأحكام القضائية ورغبتها بدعم قانون استقلال السلطة القضائية ماليا وإداريا، فتطلب من القضاة التمهل في تنفيذ الأحكام، ثم تكثف التصريحات الداعية إلى تنفيذها وأخيرا تقرر رفع دعاوى مضادة ضد القضاة تطلب فيها بطلان الأحكام القضائية التي استحقوها، وأخيرا تقدم مشروعا على نحو عاجل باسم تنظيم القضاء سبق لها أن روجت له من أنه يتضمن استقلالا إداريا وماليا للقضاء، وما هي إلا أيام حتى تنكشف نصوص المشروع الحكومي الذي يسعى إلى تحقيق الهيمنة الإدارية والمالية على عمل السلطة القضائية، ولم يكن الاستقلال الإداري والمالي المروج عنه إلا ضربا من ضروب الخيال، وبعيدا كل البعد عن فكرة الاستقلال المطروح!

ويلاحظ على المشروع الحكومي الذي حمل توقيع وزير العدل وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي يعقوب الصانع، والذي قدمه أخيرا الى مجلس الأمة، تضمنه مجموعة من المسائل التي تخالف الدستور ومبادئ الاستقلال الإداري، وذلك على النحو التالي:

مخالفة الدستور

أولا: مخالفة المشروع الحكومي للمادتين 163 و168 من الدستور:

أكد الدستور الكويتي في باب تنظيم السلطة القضائية ضرورة تضمن أي قانون ينظم السلطة القضائية للاستقلالية اللازمة، حيث أكد في المادة 163 من الدستور «أن لا سلطان لأي جهة على القاضي في قضائه، ولا يجوز بحال التدخل في سير العدالة، ويكفل القانون استقلال القضاء، ويبين ضمانات القضاة والأحكام الخاصة بهم وأحوال عدم قابليتهم للعزل».

ونصت المادة 168 على أن «يكون للقضاء مجلس أعلى ينظمه القانون ويبين صلاحياته»، والملاحظ من مواد مشروع القانون مخالفتها لمبدأ الاستقلال الذي نص عليه الدستور للقضاء، فضلا عن مخالفته بأن يكون للقضاء مجلس يدير شؤونه تكون له من الصلاحيات التي يستطيع أن يتخذها، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا أين المشروع الحكومي من تلك الصلاحيات التي يتحدث عنها الدستور؟ وأين مظاهر الاستقلال التي كفلها الدستور للقضاء وأشار لها المشروع الحكومي المعيب والمحال إلى مجلس الأمة، والذي يضمن هيمنة الحكومة على الشأنين الإداري والمالي لا الاستقلال الإداري والمالي المنشود والذي طالبت به كل مجالس القضاء الحالية أو السابقة، وبالتالي فإن مشروع القانون الحكومي يتضمن شبهة مخالفة الدستور وما التنظيم المقدم إلا انقلاب على نصوص الدستور!

تقييد القضاء

ثانيا: إن الملاحظ على المشروع الحكومة تأكيده ثلاث أفكار هي إلصاق الشأنين الإداري والمالي بوزارة العدل وحدها، مع إشراك وزارة المالية في تحديد المسائل المالية المتصلة بالرواتب، بينما الأمر الثاني هو شل حركة المجلس الاعلى للقضاء باتخاذ قراراته ومحاولة تدارك الثغرات الواردة بقانون القضاء الحالي بحسب وجهة النظر الحكومية على ما يبدو، والتي استغلها القضاة في رفع الدعاوى القضائية للحصول على حقوقهم المالية، وهو ما يتضح من المادة 17 بفقرتها الثالثة، والتي تقرر عدم سريان أي قرارات أو مشاريع من مجلس القضاء إلا بموافقة الحكومة، وكذلك بجعل الدعاوى التي يرفعها السادة القضاة على درجتي تقاضي استئناف وتمييز بدلا من التمييز فقط، وكذلك منع القضاة من نظر الدعاوى الخاصة برجال القضاة إن كانت لهم مصالح مباشرة أو غير مباشرة، وهو ما يعني أن القضاة الكويتيين على سبيل المثال إن كانت لهم دعاوى قضائية أمام دائرة رجال القضاة فلا يمكن أن ينظرها قضاة كويتيون بل قضاة مصريون، لأن للكويتيين مصلحة مباشرة أو غير مباشرة منها، وهو ما سبق أن حاولت الطعن عليه الحكومة في دعاوى البطلان على الأحكام التي حصل عليها القضاة قبل نحو عام وفشلت، وتريد اليوم إصدار قانون للنص عليه، وهو ما تم منها بالمشروع المقدم منها بالمادة 50 من المشروع.

أما الأمر الثالث الذي يتبناه المشروع الحكومي بشأن ما يسمى باستقلال القضاء فهو أن القانون لايزال يركز على صلاحيات وزير العدل في اتخاذ القرارات أو ضرورة علمه أو بدوره في اتخاذ القرارات المصيرية المتصلة بالقضاء، فمازال يملك الوزير بالأحقية بالموافقة على تعيين رؤساء المحاكم والنائب العام والمجلس الأعلى للقضاء وإنشاء المحاكم وتسيير المصالح القضائية الداخلية، وهو ما يعيدنا إلى المربع الاول الذي يدفع الكثيرين ومنهم المجلس الأعلى للقضاء إلى المطالبة باستقلال القضاء، وإلا فما الفائدة من وجود قانون يكرس ذات العيوب والمثالب التي يشتكي منها القانون الحالي، بل والسؤال الأهم وهو لماذا أطلقت الحكومة أمر الاستقلال الإداري والمالي لبعض الجهات الرقابية مع إيجاد سلطات إشرافية بسيطة للوزراء كهيئة سوق المال وهيئة مكافحة الفساد على سبيل المثال، وتريد أن تتحكم في اتخاذ القرار الإداري في القضاء رغم أنه سلطة رسم لها الدستور الاستقلالية اللازمة، ومظاهر الاستقلالية سبق للمجالس السابقة إقرارها والتحدث عنها، بل إن القضاء كشف عنها حتى بمشروعه المحال إلى مجلس الوزراء والذي نجحت الحكومة في تشويهه بشكله المحال إلى مجلس الأمة؟!

صلاحية واسعة للوزير

ثالثاً: النصوص التي تشير إلى صلاحيات الوزير.

يتضح من نصوص مواد المشروع تضمينه بـ11 مادة تؤكد وجود صلاحيات واسعة للوزير، علاوة على صلاحياته الموجودة بقانون القضاء الحالي، حيث تنص المادة الثامنة فقرة أولى على إنشاء المحاكم الجزئية من قبل وزير العدل، وفي المادة 16 بعضوية وكيل وزارة العدل في المجلس الأعلى للقضاء، وفي المادة 24 بفقرتها الثانية بحضور وزير العدل أثناء أداء القسم لرئيس محكمة التمييز ونائبه، ورئيس محكمة الاستئناف ونائبه، ورئيس المحكمة الكلية، وكذلك المادة 25 بفقرتها الأخيرة بأن يكون ندب القضاء أو عضو النيابة العامة بقرار من وزير العدل وحده، وفي المادة 36 من القانون بأن يتم إخطار وزير العدل بصورة من عقوبة التنبيه التي تتخذ بحق القاضي، وفي المادة 61 بفقراتها من ضرورة موافقة وزير العدل على تعيين النائب العام والنواب العامين المساعدين أو المحامين العامين، وكذلك تعيين وكلاء النيابة العامة وفصلهم، وفي المادة 16 مكرر بأن يكون الندب للعمل في الأمانة العامة للقضاء بقرار من وزير العدل، وفي المادة 17 بفقرتها الثانية بأن يكون مجلس القضاء ملزماً ما يصدر عنه في المسائل المتعلقة بالقضاء أو النيابة إلى الوزير للنظر فيها، وله أن يتخذ مايراه.

 وفي المادتين 77 و80 يتم إنشاء إدارتين بوزارة العدل، الأولى تخص سكن القضاة، والثانية إنشاء صندوق لرعاية رجال القضاء للضمان الاجتماعي، وكذلك المادة 82 من المشروع التي تقرر أحقية رجال القضاء للمعاش التقاعدي وفق القواعد التي يضعها كل من وزيري العدل والمالية، كما يضع الوزيران قواعد التأمين الصحي الذي يستفيد منه القضاة.

 ويتضح من تلك النصوص السابقة أنها تمنح لوزير العدل اتخاذ ما يشاء من قرارات تتعلق بالشأن القضائي ابتداء من التعيينات، مرورا بالترقيات وفصل وكلاء النيابة، وختاما بتعطيل القرارات الصادرة من المجلس الأعلى للقضاء، بحسب ما تمنحه تلك الفقرة الثالثة من المادة 17 من المشروع الحكومي.

مخالفة الوعود

رابعاً: خالف المشروع الحكومي الوعود الحكومية التي أطلقها كل من وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء في جلسة المجلس الأعلى للقضاء في شهر يوليو من العام الماضي، عندما تولى حقيبة وزارة العدل بالإنابة من سعي الحكومة إلى إقرار قانون للاستقلال المالي والإداري، بل ان هذه الوعود استمرت بالإطلاق بتصريحات وزير العدل وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية الحالي يعقوب الصانع بعزم الحكومة على إقرار قانون للاستقلال الإداري والمالي، بينما المتصفح لنصوص المشروع الحكومي والمقدم من الحكومة والذي أشرف على إخراجه وزير العدل الحالي ليتأكد أنه يخلو من كل معاني الاستقلال لدرجة أنه بمجرد تسريب مواده انتفض رجال القضاء وأعلنوا رفضهم إقرار هذا القانون المخيب للامال، بينما حال الوزير احتواء الموقف بطلب الاجتماع بمجلس القضاء للوقوف إلى ملاحظات السلطة القضائية، لمحاولة تهدئة الوسط القضائي والدفع بإيجاد مخارج لنصوص القانون المقترحة من الحكومة!

مخاصمة القضاة بجريمة «الغدر»!

تضمنت المواد المنظمة لمشروع الحكومة عبارة «الغدر» بامكان مخاصمة القاضي إذا ما صدر منه غدر دون أن يحدد المشروع ما المقصود من الغدر وما هو تعريفه؟ وما الأركان المادية لجريمة الغدر الذي يمكن محاسبة القاضي عنها خصوصا أن قانون الجزاء الحالي، الذي يعد شريعة عامة للقوانين الجزائية، خلا من تعريف لجريمة الغدر؟ كما يثار سؤال آخر، هل من المقبول أصلا أن يفترض المشرع أن يصدر هناك غدر من القاضي في الأساس؟

ملاحظات على مشروع الحكومة

1- ​الهيمنة الإدارية للحكومة على السلطة القضائية، وصور ذلك:

أ- عضوية وكيل وزارة العدل في المجلس الأعلى للقضاء.

ب- ندب القضاة والمستشارين للقيام بأعمال قضائية وقانونية بقرار من وزير العدل.

ج- إحالة ما يراه المجلس الأعلى للقضاء من أمور متعلقة بالقضاء والنيابة إلى وزير العدل ليتخذ ما يراه من إجراءات إدارية وتشريعية.

د- إنشاء صندوق رعاية رجال القضاء في وزارة العدل يحدد قواعد الإنفاق فيه وتنظيمه بقرار من وزير العدل بالاتفاق مع وزير المالية ورأي المجلس الأعلى للقضاء استشاري في هذا الأمر.

هـ- انشاء المحاكم الجزئية في محافظات الكويت، ويحدد دوائر اختصاصها بقرار من وزير العدل.

2- ​عدم وجود ميزانية مستقلة للسلطة القضائية.

3-​ وضع مكافأة نهاية الخدمة والراتب التقاعدي بشكل مخالف لما قضي

       فيه لرجال القضاء بأحكام نهائية واجبة التنفيذ.

4- ​عدم تحديد مدة للبقاء في المناصب العليا في النيابة العامة وعضوية

        المجلس الأعلى للقضاء.

5- ​عدم وضع شرط العمل بالقضاء لتولي المناصب القضائية المشار اليها.