الضوضاء
بعد أن كانت الطبيعة ملهمة الشعراء والفنانين؛ لجمالها وسحر ما فيها من صور الجمال كالطيور والحيوانات والغيوم والبحار، دبّ فيها ضجيج لم يعد يحتمل بسبب الغزو التقني والتغير الذي طرأ على طبيعة البشر الذين تعرضوا لكثير من صور الخوف والقلق من الحروب أو الفقر أو الاضطهاد الإنساني، بصور جعلتهم يُستـفـزون من أي حركة مريبة أو توقع سوء لا يدرون متى يحل بهم أو من أين يأتيهم.بنظرة شاملة لما جـدَّ على الحياة وتعامـل البشر فيما بينهم لن نجد صعوبة في التعرف على بعض أسباب هذا القلق الإنساني، وهذه الضوضاء العالية الإيقاع التي نسمعها على مدار الساعة من سيارات أو قطارات أو طائرات تخترق صفاء السماء في كل وقت، أو من صوت عال متبادل بين الناس في الشارع أو البنايات السكنية في أوقات يكون الآخرون في حاجة إلى راحة وساعات هدوء، بعد يوم عمل شاق أو سفر طويل، أو بحاجة إلى أن يبقى أطفالهم نياما.
لذلك فقد قامت الدول المتحضرة ومنذ زمن بمنع أي ضوضاء بعد ساعات محددة من الليل خاصة، أو الأماكن العامة إلا في حدود الحاجة مثل متابعة العروض الرياضية أو المسابقات وغيرها، ولا يسمح بأي ضوضاء بعد منتصف الليل.ونجد أن البعض، وفي مناسباتهم التي تحتاج إلى وقت متأخر، يستأذنون جيرانهم وبكل أدب بأن ثمة ضوضاء ربما تصدر عنهم، الأمر الذي يشعر معه الجميع بتقدير مشاعرهم، وهذا لا يكون في الغالب إلا في يوم عطلة مثل يوم السبت وليلة الأحد.منذ زمن غير بعيد "كان" في عاداتنا الكثير من الاحترام المتبادل بين الجيران، حيث الجميع يشارك ويفرح مع الفرحين أو يحزن ويواسي المحزونين، وقد يتعطل فرح ما على وشك الإتمام بسبب موت أحد الجيران أو مصيبة عامة. في هذا الزمن الذي أصبحت الضوضاء سمة طاغية اختفت هذه الظاهرة الطيبة من عاداتنا، ولم يعد أحد "إلا من رحم ربي" يقيم وزنا لأحزان الآخرين، وقد يرى البعض سببا لذلك أن الأحزان في حياتنا طغت على الأفراح أو أن "الحي أبقى من الميت" في أبسط صورة يدّعيها البعض وأن الزمن تغير!!هذا الانفلات وهذا التساقط للقيم أثر في أجيال باتت ترى فيها "تخلفا" يجب التخلص منه، لكننا لو عدنا لتأمل هذه العادات الحميدة لوجدنا أنها إحدى العــُرى الوثقى في بناء المجتمع وسلامته وتماسكه، فلماذا نترك لهذه الضوضاء مجالا للاتساع وأن ترسل تقاسيمها الصاخبة لتزعجنا وتقلق راحة المتعبين وترهق عيون الأطفال النيام؟!إن الحكمة تقتضي أن نكون في مستوى البلاد المتحضرة التي نتواصل معها في كل شؤون حياتنا، ولن نعجز عن الاستفادة مما زرعته في نفوس أبنائها من احترام، في حين نحن الذين كنا نصدره للآخرين بعد أن تلقينا أعظم رسالة في كتاب كريم : "وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ".* كاتب فلسطيني - كندا