ابتُلينا ببلاءين، أو بالأحرى بلونين من ألوان الفوبيا أي الخوف المرضي. الأول الخوف من إدخال دراسة المذاهب الإسلامية وأسسها وفروقاتها في المناهج الدراسية منذ الصفوف الأولى حتى الجامعة. والآخر الخوف المرضي من تدريس التاريخ على حقيقته وبحيادية وموضوعية مطلقة، وبلا رتوش من قداسة أو تهويل أو تزويق.

Ad

  من يتابع مسلسلات الطائفية البغيضة ابتداءً من الفتن وبث الكراهية، مروراً بالتفريق العنصري بين أبناء المجتمع الواحد، وانتهاءً بالقتل الطائفي والترويج للإرهاب، يجد أن مصدرها الأساسي يعود إلى البلاءين المذكورين أعلاه!

 فقد مضى حين من الدهر ومسألة تناول المذاهب الإسلامية بالشرح والتعريف -من خلال المناهج الدراسية أو حتى من خلال التثقيف العام في وسائل الإعلام– مسألة تكاد تكون محظورة أو مشوبة بالحذر والتردد! ولو قربنا مجال الرؤية نحو بؤرة أدق، وفي مجتمع مثل الكويت حيث نسبة السُّنة تصل إلى حوالي الثلثين مقارنة بالشيعة، نجد أن التعريف بالمذهب الجعفري في المقررات الدراسية لا وجود له في النظام التعليمي العام، ولا حتى في كلية الشريعة الجامعية! الأمر الذي يقرع الكثير من أجراس التساؤل ويكرّس الجهل والتجهيل، ويفتح الأبواب أمام سوء الفهم وما يفرزه من تصورات مغلوطة. لعل أكثر تلك التصورات أذىً ما يُلحق بالمذهب من شطحات وخرافات ليست منه، وما يُلصق به من ممارسات دخيلة ساهمت في التشويه والإرباك وتكريس الجهل بروح المذهب وأصوله الجوهرية، ومن ثمّ خلْق تلك الغربة النفسية في المجتمع الواحد.

  ولعله لا يخفى على أحد أن الفروقات المذهبية ما هي إلا نتائج لصراعات تاريخية في الأصل. وهذا يأخذنا إلى (البلاء الآخر) المذكور آنفاً، وهو الارتباك أمام تاريخ بهذا الزخم والتشابك والامتلاء بالإحن والضغائن. بل إن الأدهى والأمرّ في تاريخنا هو قدرته المذهلة على فرض أحداثه وسيناريوهات مشاهده ورموزه على لحظتنا الراهنة بكل قوة وزخم! إذ يبدو أننا الأمة الوحيدة في العالم التي ماتزال تعيش أدوار أسلافها وتأتمر بأجنداتهم وشخوصهم وأفعالهم، في الوقت الذي أحالت فيه الأمم الحية تاريخها إلى مادة أرشيفية بعد أن انتهت من تحييده ووضعه تحت مجهر الدراسة العلمية الموضوعية.

 مايزال التعامل مع تاريخنا هو التحدي الأكبر الذي نواجهه، وماتزال الموضوعية والحيادية العلمية هي إحدى المعضلات غير القابلة للتنفيذ، ومانزال نتعامل مع هذا التاريخ كجمرة ملتهبة، أو كفضيحة، أو ككيان مقدس صنعه ثلة من الفرسان والأفذاذ والأبطال الأسطوريين.

 ولعل أهم تلك التحديات التي تواجه إخضاع التاريخ للموضوعية هو ارتباطه بالدين، أي ارتهانه للمقدس. وذلك انطلاقاً من ارتباطه بالدعوة الإسلامية التي منذ بزوغها بدأ تاريخ العرب يتشكل ويتأسس. ومع مرور الزمن لم يعد المقدس مرتبطاً بعصر النبوة، وإنما امتدّ ليشمل ما تلاه من أحداث ورموز وشخصيات أصبحت هي أيضاً مقدسة بالضرورة، وبات التوثيق لها تاريخياً يستلزم الخشوع والتبجيل وأحياناً المبالغة في إسباغ الكرامات والخوارق التي مع تقادم الزمن باتت من المسلمات غير القابلة للرد!

  وبالعودة إلى النظر في مسألة الطائفية وشيوع سوء الفهم بين المذاهب الإسلامية، قد يتوصل المتأمل إلى أن أسّ البلاء يكمن في التاريخ الذي مانزال نتخبط في وحوله، ومايزال كل منا ينظر له من زاويته ويفسره حسب ميوله وأهوائه، ويمارس ذات الاصطفاف مع هذا أو ذلك من الأطراف التي كانت تتصارع قبل ما ينوف عن ألف وأربعمئة سنة! ولن يغير الزمن هذه الحال ما لم نتخلص من داء التقمص بأشباح الماضي، ونعيد النظر في التاريخ بموضوعية مطلقة وبعقلية علمية سليمة، إلى أن نصل إلى ذلك اليوم الذي يمكن أن يُدرّس فيه التاريخ بحيادية مطلقة، حينئذ يمكن أن نحلم بمجتمع يسقط فيه حائط الطائفية البغيض، أو على الأقل يسمح بفروج تدخل منها الشمس.