حكاية «بابو»!
كنا نقيم مقابل ساحة الصفاة -في بيوت الخلف- خلف البنك البريطاني عام 1950، وكان يجاور بيتنا هندي من طائفة السيخ، يعيش في منجرة ويصنع الأبواب والشبابيك، كان هذا الرجل من أشد الناس حدباً وعطفاً عليَّ لما يراه من بؤس يكتنف طفولتي! فكان يشركني في طعامه، وإذا لم أكن موجودا يخبئ لي "بابو" الطعام حتى أعود.وفي يوم تعرضت للسقوط في بئر -جليب- فتم الاستنجاد بـ"بابو" لإخراجي! فجاء الرجل بأحبال ثم ألقى بها إليّ، وأخذ يرشدني بطريقة إنسانية محببة إلى أن أكف عن البكاء وأتمسك بالحبل، الذي أخذ يجذبه بصعوبة بالغة إلى أن خرجت من البئر تماماً، لأتلقى الصفعات على إهمالي الذي أوقعني في البئر! بينما كان الـ "بابو" في غاية الدهشة من هذا المنظر، فما كان منه إلا أن أخذني إلى منجرته ليهدئ من روعي من شدة البكاء، بسبب الرعب الذي انتابني وأنا في البئر. ثم جاء بالقطن لعلاج الخدوش في وجهي ورأسي.
وبصدق أقول -للتاريخ- كان هذا الرجل الهندي السيخي أشد عطفاً عليّ مما كنت ألقاه في بيتي!• وكم حزنت يوم انتقلنا إلى فريج البلوش، في منطقة الشرق، وودعت "بابو" بالدموع، وبعد أن احتضنني أخذ هو الآخر يجهش بالبكاء... كنت أزوره في المنجرة في فترات بعيدة، وكان يسعد بي أيما سعادة!*** عدت من القاهرة إلى الكويت عام 1971 بعد أن تخرجت في الجامعة، وتوليت منصب رئيس قسم السينما والمنوعات في التلفزيون، واستأجرت بيتاً من بيوت الكاظمي المقابلة لفندق هيلتون المواجه للسفارة الأميركية.وكانت صناديق قمامة المنطقة توضع في الشارع الرئيس، وبينما أنا عائد إلى بيتي يوماً، شاهدت من يبحث في القمامة عن طعام، فلفت ذلك المنظر انتباهي، فاقتربت منه، فنزل عليّ ما رأيته كالصاعقة!... إنه "بابو"، الذي ظل محتفظاً بعمامته السيخية، لكن تراكم السنين أخذ منه مأخذه، فغداً كالشبح.وارتاب الرجل من قدومي نحوه، فطمأنته بأنني لا أنوي به شراً، وقلت له: دع عنك هذا الطعام سأوفر لك وجبة طعام أفضل، وحاولت بكل جهدي تنشيط ذاكرته ليعرفني، لكن "بابو" كان بين الشك واليقين، وبعد أن أقنعته باصطحابه، أخذته إلى منزلي، مما استثار حفيظة زوجتي والأطفال، لمنظره المزري، وبعد تناول شيء من الطعام، كنت في هذه الأثناء أشرح لزوجتي الموقف مختصراً الكثير من التفاصيل، وأفردت له غرفة وساعدته بنفسي على استحمامه واستبدال ملابسه بما توفر. وشيئاً فشيئاً، بدأ "بابو" يعود بذاكرته إلى أكثر من عشرين سنة إلى الوراء، فتذكر منجرته وجيرانه، ثم تذكر حادثة البئر.ولما كان ولدي أمجد شديد الشبه بي، فقد كان ينظر إليه ثم يقارن بينه وبيني حين كنت طفلاً، فتأكد له أنني ذلك الطفل البائس الذي كان يعطف عليه.• طلبت من زوجتي أم أمجد، وهي حية ترزق أطال الله في عمرها، أن ترعى هذا الرجل الهرم، لما له من فضل عليّ أثناء طفولتي حتى أوجد له ما يضمن له عيشة أفضل، واستمر معنا بعض الوقت.وفي يوم عدت من عملي فلم أجد "بابو"، وأخبرتني زوجتي بأنه رحل.وساورتني شكوك كثيرة لسبب رحيله من البيت، وهرعت إلى الخارج باحثاً عنه في الأماكن التي كنت أتوقع أن يكون قد لجأ إليها، لكن كل جهودي باءت بالفشل!ولا أتذكر تفاصيل ما تركه رحيل "بابو" من البيت من تأثير سلبي مع عائلتي، لكن المؤكد أنه كان هناك خلاف.***• وبينما كنت أطالع صحف الصباح في مكتبي، لفت انتباهي نشر خبر عن حادث سير مروع كان مسنّ هندي من طائفة السيخ ضحيته، أمعنت في الصورة جيداً... كان "بابو"!