آليات الصعود في الزمن العربي الراهن التي أصبحت عنواناً لعالمنا العربي وإطاراً لحراكه المجتمعي كثيرة، منها اسم القبيلة أو العائلة، والعلاقة مع «الأجهزة الأمنية»، و«الواسطة» والفساد، والولاء الكاذب، والتساهل الممزوج  باللطافة الكاذبة، والرشوة، والانتماء الحزبي، والخدمة في السلك العسكري.

Ad

ثمة عشر آليات للصعود في الزمن العربي الراهن، وهي آليات سادت حتى أصبحت عنواناً لعالمنا العربي وإطاراً لحراكه المجتمعي، مُستبعدة، فيما استبعدت، خصائص النبوغ والاجتهاد والعزم والوطنية، ومُكرسة، فيما كرست، سمات العجز والانتهازية.

أولى آليات الصعود في عصرنا العربي الجاري اسم القبيلة أو العائلة التي تنتمي إليها؛ فمن خلال نسبك سيمكنك أن تحظى بالمناصب العالية أو الوكالات التجارية المربحة، كما ستشكل لك العائلة سياجاً للحماية في حال أخطأت أو زلّت قدماك، وسيفتح لك لقبك العائلي أبواب النفوذ والمال.

أما ثانية تلك الآليات فليست سوى أن تمتلك علاقة مع "الأجهزة الأمنية"؛ فبها تُفتح لك الأبواب، وتُذلل الصعاب، وتُختصر المسافات، وتُقام شبكات الإنقاذ، وتظل ساهرة ومنصوبة، لتؤدي دورها في انتشالك من غياهب السجن وزوايا الخزي والعار، إن أخطأت الحسابات، أو تم ضبطك بالجرم المشهود.

"الواسطة" هي الآلية الثالثة؛ فبها ستحصل على الموقع أو الوظيفة أو الامتياز؛ تفوز بالمنصب المُهاب، أو تحصل على الترقية والمكافآت الدسمة؛ فتقهر منافسيك مهما تفوقوا عليك، وتهزم نظراءك مهما كانوا أفضل منك، وتسحق فرصتهم في التقدم، ومعها الأمل في العدل والمستقبل.

أن تكون فاسداً سهل الغواية هي الآلية الرابعة، فمن خلالها ستنهال فرص الصعود عليك؛ ذلك أن أصحاب الأمر معظمهم يفضلون هذا النوع من الموظفين؛ فمن ناحية سيسهل استخدامهم في توسيع الفساد وزيادة عوائده، ومن ناحية أخرى لن تظهر صعوبة في تدجينهم والسيطرة عليهم وقت الحاجة.

الولاء المصطنع هو الآلية الخامسة التي يمكن من خلالها أن تشق طريقك إلى الأمام؛ فبعبارات من نوع "أحلام سيادتك أوامر"، و"تامر يا طويل العمر"، و"على راسي وتكرم عينك"، سيمكنك أن تحظى بالنفحات والنعم من أولي الأمر. وبالسؤال الملح عن الصحة والمزاج، والاهتمام المبالغ به بالشؤون الخاصة، والمديح المتواصل لذكاء المسؤول وعبقريته، والدخول في المعارك المختلفة دفاعاً عنه وإعلاء لشأنه، وحمل الحقيبة، وتوسيع الطريق، وغيرها من المهازل التي باتت جزءاً من حياتنا العامة، سيمكنك أن تجد طريقك بسهولة إلى الترقي والصعود.

أما الآلية السادسة فتتمثل بخفة الدم والانسحاق المجاني؛ ذلك أن تكون "لذيذاً، لطيفاً، حاضر النكتة"، وأن تكون "متساهلاً، ذا جلد سميك، منسحقاً بلا كرامة". لن يقبل صاحب الأمر أن يعطيك الفرصة لتخطو إلى الأمام ولو خطوة واحدة، إذا تيقن أنك من أصحاب العزة أو الاعتداد بالنفس، أو غيرها من السمات التي تتعلق بعصور غابرة لا مكان لها بيننا الآن.

أما الآلية السابعة فليست سوى الرشوة المباشرة؛ التي توفر لك طريقاً سهلاً ومُجربة وناجزة للصعود، لا تحتاج سوى أن تحزم أمرك، وتقدر المبلغ أو الميزة التي يمكنها أن تحسم لك الصراع مع منافسيك، وفور أن تدفع بها إلى المسؤول في الوقت والمكان المناسبين، لك أن تحتفل بفوزك بما رميت إلى الحصول عليه، مهما كان صعباً عزيز المنال.

ويمثل الانتماء إلى "حزب سياسي" أو "جماعة دينية" أو "مجموعة" أو "ديوانية" أو "جلسة قات" أو "صالون سياسي واجتماعي" الوسيلة الثامنة من وسائل الصعود في عالمنا العربي. فمن خلال ذلك الحزب أو تلك الجماعة أو هذه "الشلة" (الربع)، سيمكنك أن تجد فرصة الترقية، أو زيادة الراتب، أو الحصول على منصب سياسي، أو عضوية أحد الأجهزة أو المجالس، أو غنيمة مالية من خلال "سمسرة" أو "عمولة".

لا توجد آليات انتخاب وفرز معيارية في مؤسساتنا العربية بالقدر الذي يسمح بعدالة توزيع فرص الصعود، لذلك فإن معظم قرارت الانتخاب والترقي تتخذ على أسس غير موضوعية، وكلها تستند إلى المعرفة المباشرة من خلال القرب الاجتماعي أو الروابط التقليدية.

وتختص آلية الصعود التاسعة في عالمنا العربي بالخدمة في مؤسسات بعينها، وعلى رأس تلك المؤسسات بالطبع تأتي المؤسسة العسكرية، خصوصاً في الدول الجمهورية، كما أن مؤسستي القضاء والتعليم العالي تمثلان رافداً مهماً من روافد الترقي والحصول على المناصب المهمة.

إن الانتماء إلى هذه المؤسسات كفيل بأن يعزز فرص الصعود، في حين يعاني المنتمون إلى المؤسسات الأخرى ظروفا أصعب، وتُفرض عليهم شروط أكثر تعقيداً للبروز أو الدخول في دوائر الاختيار.

وعلى عكس الآليات السابقة كلها؛ فالآلية العاشرة أقل سلبية وأكثر وجاهة؛ إذ تتعلق بـ"الذكاء النظري"؛ أي ذلك النوع من الذكاء الذي يُسجل في الدفاتر، ويقوم على الأقدمية، أو تحقيق النتائج في ساحات التنافس النظري، أو الذي ينتج عن طول مدة الخدمة، واستيفاء شروطها الإجرائية.

سيمنحك تمتعك بـ"الذكاء النظري" فرصة طيبة للتقدم في واقعنا العربي الراهن؛ إذ سيعرف القائمون على الأمر أن ذكاءك لن يترجم في إنجاز أو تفوق حقيقي يجعل مواقعهم في خطر، وفي الوقت نفسه سيمنحهم تقدمك النظري الفرص للحديث عن العدالة ومكافأة التفوق دون أن تتهدد مكاسبهم، أو تختل بنية العجز التي اجتهدوا في بنائها.

يبقى أن ثمة استثناء يثبت القاعدة أكثر مما ينفيها أو يعول عليه في كسرها وتفادي مخاطرها وآثارها المهيمنة الممتدة؛ وهو ما يتعلق بإشارات نبوغ حقيقي يظهر أحياناً كالبرق، ثم يتطور ويُبنى عليه، أو لا يلبث أن يخفت أو ينطفئ، وهو أمر محسوس يمكن إدراكه بسهولة في قطاعات الفنون والرياضة والأعمال والمشروع الخاص، لكنه عزيز نادر في السياسة والعمل العام ومرافق الدولة وأجهزتها.

تختلف آليات الصعود في عالمنا العربي اختلافاً كبيراً عن تلك التي تصنع "الحراك الاجتماعي" في المجتمعات المتقدمة؛ إذ يأتي التعليم على رأس الآليات التي تصنع هذا الحراك، ومعه النبوغ والتفوق في أحد المجالات التخصصية.

إن مراجعة آليات الحراك الاجتماعي والصعود السياسي والمالي والوظيفي في العالم العربي مسألة في غاية الأهمية، فمن خلال آليات صعود معيارية وموضوعية يمكن أن تتقدم الأمم، وبغيرها تظل الحال كما هي حالنا الآن.

* كاتب مصري