أن تقرأ رواية "مدام بوفاري" بعد مرور 25 سنة يصبح لها أثر ومعنى أوقع على الإدراك وأكبر بكثير من قراءتها الأولى، حين أهداني د. فؤاد زكريا الرواية قبل 25 سنة وحسب رأيه أنها من أهم روايات الأدب الواقعي، وكنت ما قرأت لجوستاف فلوبير أي عمل من قبل، قرأتها كحدوتة وقصة لم تلفت نظري ولم تشدني كثيرا، لكن حين أعدت قرأتها في النسخة التي أهداني إياها الصديق الأديب محمد الأسعد، وجدت فهمي واستيعابي لها أكبر بكثير من السابق، فكأن الخبرة العمرية والزمنية تُضفي على النص رؤية لأبعاد جمالية وفنية متعددة أعمق وأكثر فهما لطبيعة النص وثرائه الفني والأدبي.

Ad

كُتبت هذه الرواية في عام 1851 عن قصة حصلت بالفعل أي أنها رواية واقعية حقيقية، استغرقت كتابتها خمس سنوات حتى انتهى منها جوستاف فلوبير، بسبب شدة دقته في صياغة ونحت الكلمة والجملة المطلوبة في النص كما يحب أن تكون، وهو بالفعل الأمر الذي ميز هذه الرواية هو دقتها وتحديدها للجملة والمفردة الصحيحة في المكان الصحيح، مما يتطلب نحت المعنى الدقيق المصقول لكل واقعة ولكل تفصيلة سواء في الأحداث أو في رسم الشخصيات والغوص في ينابيعها الفكرية والروحية والوجدانية، مما جعل فعل القراءة كفعل المشاهدة السينمائية التي نقلت لنا طبيعة عصر بكامل تفاصيله وألوانه ومشاعره بريشة رسام ناطقة.

بالرغم من أن جوستاف فلوبير يعد من طليعة كتاب الواقعية الرومانتيكية فإني وجدت مشاهد كُتبت بشكل حداثي عجيب بل في قمة الحداثة برغم كلاسيكيتها مثل المشهد الذي يدور في المعرض الزراعي حين ربط ما بين خطاب المستشار الزراعي وإغواء رودولف لمدام بوفاري بالتضفير والتلاعب بالمعنى بشكل مذهل، فحين كان المستشار يعني بكلامه الفلاحة وزيادة الإنتاج الزراعي والحيواني، كان رودولف يسقط الكلمات بمعنى آخر إغوائي ماكر، مشهد في قمة الذكاء للدهاء المخطط المرسوم بمكر شديد.

مشهد العربة من أروع المشاهد التي قرأتها في حياتي حين ركبت مدام بوفاري العربة مع ليون الذي أسدل ستائرها وجابت فيهما جميع شوارع المدينة وأسواقها وميناءها وبيوتها وحوانيتها حتى خارت قوى سائقها والأحصنة، وكلما أراد السائق التوقف صرخ فيه ليون بأن يستمر في السير حيث كان يمارس الحب مع "إيما" في داخلها، هذا المشهد خرافي مرسوم بدقة عجيبة ساخرة مضحكة، خاصة عندما تمتد يد إما من بين الستائر لتلقي بقصاصات الرسالة التي كتبت فيها رفضها لرؤية ليون.

أيضا هناك مشهد إيما، وهي عائدة من لقاء عشيقها وتخبرها الخادمة بأن هناك خبرا جللا عند الصيدلي، فتذهب إليه وهي مضطربة لتجده مع زوجته وأولاده وصبية جميعهم يعملون في إعداد مربى المشمش في الصيدلية وهم في هرج، وكلما سألته عن الموضوع يرد عليها بتفاصيل صنع المربى، كان الحوار في هذا المشهد في منتهى الظرف والخفة الساخرة التي هي من طبيعة تركيبة روح المؤلف.

مدام بوفاري قيمتها الحقيقة في قدرتها على معرفة مشاعر المرأة والغوص في تحليلها بمقدرة عجيبة، فالمؤلف عاش تجربة عشق بطلتها "لويز كوليه"، وهي شاعرة جمالها أكثر من موهبتها، عشقت جوستاف فلوبير من أول نظرة ورغبت أن يتزوجها بالرغم من أنها متزوجة من موسيقي ولها ابن من عشيق آخر، صفاتها مماثلة لمدام بوفاري، تشبهها في الجمال والتهور وحب امتلاك العشيق والفجور، وعلاقتها بفلوبير تشبه علاقة إيما بالكونت رودولف حتى بتفاصيل المشاعر، وأظن أن جوستاف سكب تجربته معها في الرواية ووظف معرفته بأدق تصرفات لويز كوليه معه ورسائلها الكاشفة عن كل أحاسيسها ومشاعرها تجاهه وما تعانيه من رغبات متطرفة حادة الغرام والشك والغيرة، كلها تخمرت في وعيه حتى لبسها شخصية إيما التي هي أيضا شخصية حقيقية، ولولا معايشة جوستاف فلوبير لمشاعر المرأة التي عشقته وكشفت له عن أدق أحاسيسها تجاهه بسبب هذا عشقها له، ربما ما كان سيدرك كل هذه التفصيلات الدقيقة في مشاعر المرأة الحسية والعقلية والنفسية.

رواية مدام بوفاري عمل كلاسيكي ممتع جدا، فيه نقل سينمائي لأمكنة وناس ذاك الزمن الذي كُتبت به حتى ليكاد المرء يتنفس هواءه ويتعايش مع كل أبطاله وتتلبسه أحزانهم ومسراتهم ومشاعرهم التي تترسب وتنطبع على وجدان القارئ.