يتناول المقال فكرة «المخلص» التي يلجأ إليها الناس وقت الفتن والمحن واشتداد الظلمات، فكل مخلصهم، من يهود ومسيحيين ومسلمين، كما تخطت هذه الفكرة الدين لتشمل التيارات السياسية، من قوميين ويساريين وغيرهم.

Ad

عندما تشتد الظلمات وتعم المظالم، وتكثر الفتن والمحن، وتنتشر المفاسد والمنكرات، وتسود الاضطرابات والصراعات والحروب المهلكة، فلا يأمن الناس على أنفسهم وأولادهم، فإنهم يبحثون عن الخلاص، وينشدون المخلص: دولاً وشعوباً، جماعاتٍ وأفراداً، معتقدات ومذاهب وفلسفات.

 فلليهود مخلصهم من نسل داود الذي سيأتي ليحكم العالم ويدمر أعداءهم ويعيد بناء الهيكل ويقيم مملكة اليهود في فلسطين، وللمسيحيين مخلصهم المسيح عيسى بن مريم، عليه السلام، الذي ضحى بنفسه من أجل خلاص البشرية من خطيئة أبيهم آدم عليه السلام، وللمسلمين مخلصهم (المهدي المنتظر) الذي سيأتي في آخر الزمان ليملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وليقيم حكم الإسلام الصحيح وينتصر على أعدائه، واليمين المسيحي المتطرف في الولايات المتحدة، له مخلصه - أيضاً – إذ يؤمن بعودة المسيح لإنقاذ البشرية والخلاص من الشرور والخطايا التي تملأ العالم والانتصار في معركة "هرمجدون" طبقاً لعقيدة "نهاية العالم" في تحويلٍ لمفهوم "الخلاص الديني" إلى مفهوم سياسي تجاري.

وعقيدة "المخلص المنتظر" عند المسلمين، يتنازعها المذهبان السني والشيعي على اختلافٍ بينهما في التفاصيل، فالشيعة الإثنا عشرية يؤمنون بالإمام الثاني عشر محمد بن الحسن المهدي الذي دخل السرداب طفلاً، ولم يخرج منه حتى الآن، إنه هو المهدي المنتظر وصاحب العصر والزمان، وسيخرج عندما يكثر الفساد ويزيد الظلم وينتشر المنكر، ليقيم العدل، لذلك يستعجلون خروجه بالدعاء له "عجل الله فرجه"، أما أهل السُّنة فلهم تصور مختلف في المهدي المنتظر، سواء في اسمه وأوصافه أو في مكان خروجه أو في وقته أو في السيناريو الذي يرسمه بعد خروجه، وعبر التاريخ الإسلامي ظهر أدعياء كثر للمهدوية، أبرزهم: رأس القرامطة "ابن ميمون" الذي سرق الحجر الأسود (317 هـ).

وإذا كان للجماعات الدينية مخلصها المتمثل في إنسان "مثالي" فإن الجماعات السياسيات - أيضاً - لها مخلصها المتمثل في دولة "مثالية" في عالم محكومٍ بالنسبية، القوميون رأوا في الدولة القومية الموحدة، مخلصاً، واليساريون تنبأوا بالدولة الشيوعية، مخلصاً، والحركات السياسية الإسلامية حلمت بـ"الخلافة" مخلصاً.

ضحايا الهوس بالمهدي المخلص، عبر التاريخ الإسلامي، كثر، آخرهم جماعة جهيمان العتيبي (الجماعة السلفية المحتسبة)، وهي مجموعة من الشباب المتحمسين دينياً، ظهروا في المدينة المنورة في الفترة من 1965 إلى 1979، وضاقوا بمظاهر التحديث التي بدأت في السعودية، ورأوا فيها مفاسد ومنكرات ومظالم حذرت منها أحاديث الفتن وأشراط الساعة المؤذنة بقرب خروج المهدي، وهكذا انتهى بها الأمر إلى الاعتقاد بأن المهدي قد ظهر، وأن اسمه وأوصافه المذكورة في تلك الأحاديث قد تحققت في أحد أفرادها (محمدعبدالله القحطاني) صهر جهيمان، ومن ثم ينبغي المسير إلى مكة ودخول الحرم ومبايعة المهدي بين الركن والمقام حتى يعلم به جميع المسلمين، وطبقاً للسيناريو الوارد في كتب الفتن وأشراط الساعة، فإن المهدي يعتصم بالحرم ويأتي جيش من تبوك لمحاربته فيخسف به، ثم يذهب إلى المدينة ويقتل الدجال، ومن بعدها إلى فلسطين حيث يقتل اليهود، ويأتي عيسى فيكسر الصليب ويقتل الخنزير، ثم يذهبون إلى الشام فيصلون في المسجد الأموي وتقوم القيامة.

آمنت الجماعة بهذا السيناريو إيماناً جازماً، وهكذا اقتحمت الحرم المكي في غرة المحرم 1400هـ، الموافق 20 نوفمبر1979، واعتصمت به 14 يوماً، حتى تمت السيطرة عليها وقتل المهدي المزعوم.

في مثل هذا الشهر (المحرم) وقبل 37 عاماً، اقتحمت جماعة جهيمان الحرم المكي وتحصنت به، فما هي الدوافع أو الهواجس التي سيطرت على عقول ونفوس هؤلاء الشباب؟! وما هي الدروس والعبر؟!

في كتابه الممتمع والموثق "أيام مع جهيمان" يستخلص ناصرالحزيمي – وهو أحد أفراد جماعة جهيمان الذي رفض دخول الحرم ولم يقتنع بالمهدي المزعوم – العديد من هذه الدروس، أبرزها:

1- أن التمسك النصي والحرفي بظاهر السُّنة وإهمال الفقه والتاريخ وتجاهل الواقع ومتغيرات العصر، أدت بهذه الجماعة إلى الانغلاق والغلو ثم مصادمة المجتمع وكراهيته واعتزاله ومفاصلته (رسالة رفع الالتباس لجهيمان) ومن ثم إلى استحلال المحرمات الكبرى (سفك دم حرام في الشهر الحرام في البلد الحرام) والعنف... ولله در الشيخ الغزالي – رحمه المولى تعالى - بمقولته "لا سُنة بدون فقه".

2 – أن جرأة هؤلاء الشباب على شيوخ وعلماء السلفية وانتقادهم واتهامهم لهم وعدم اعترافهم بالمذاهب الفقهية، بل وتشنيعهم على أئمة الفقه – بحجة اللامذهبية – أدت بهم إلى هذه المزالق الخطيرة.

3 – أن المعايشة المستمرة الطويلة مع كتب الفتن والملاحم وأشراط الساعة وآخر الزمان وخروج المهدي، والحياة في أجوائها، يقتاتون بها ويتحركون بموجبها وينامون على وقائعها، أدت بهذه الجماعة إلى انتشار "الرؤيا" بين أفرادها، وتصديقها باعتبارها (جزءاً من 46 جزءاً من النبوة) وتطبيقها على الواقع المعيش، ومن ثم تفسيرها بأنهم في آخر الزمان وخروج المهدي.

* كاتب قطري