سامي القريني... وحالة التطهُّر

نشر في 24-07-2015 | 00:01
آخر تحديث 24-07-2015 | 00:01
No Image Caption
في إحدى أمسيات {ملتقى الثلاثاء الثقافي}، وبحضور كوكبة من الأدباء والمثقفين، كان ثمة شاب لم يبلغ الثامنة عشرة، رضع الشعر منذ نعومة أظفاره واغتسل بماء الشعراء مثل السياب والجواهري. أما لميعة عمارة فكانت تنثر عليه عطرها مع كل قصيدة، وصلاح نيازي كان أكثر مرحاً وكان يطرب مع كل بيت ليكيل المديح لهذا المتوهج.

بعد اختتام الندوة لتلك الليلة، ساررت والدته، جنة القريني، بخوفي على سامي، فإذا كان الوصول إلى القمة اليوم، كما قال البعض، فماذا سيحل غداً؟

لكن ظني خاب، ولله الحمد، فسامي تسلَّق الصعاب وتصعلك بين البوادي، وصحاري الغربة، والتحق بركب المتحضرين ومدارس التنوير، وها هو يعود بعدما اتعبني السؤال أين سامي؟ وإذا بتحفته الأدبية بين يديه كوليد يصدح وموسيقى تسبر غور القارئ من دون استئذان، بل تحيلك الى الشاعر الفنان الذي جمع خبرة قوافيه وجمال تفعيلاته كي يفتح لنا باباً جديداً في حياته الأدبية بأراراته.

لا أريد ان أكون صلة الوصل بين الروائي وقراءه، بل أوصل رؤيا وتماهي أحالني أن أكون جزءاً اذا لم أكن مشاركاً بمعظم المواقف والحالات التي تخللتها الرواية، فها أنا أتوشح شعاراتها وأسير بركب تظاهرة حقوق الإنسان أو أتضامن مع الكاتب نفسه يوم يتغرب ويشعر بالوحدة، فهو اليوم جاء بما هداني إليه الذين علموني الف باء التضامن والمناصرة.

يوم هاجرت من بلدي طلباً للأمن وجدته مهاجراً لطلب الأمل، وكلانا لا يطلب العمل. هجرته صقلت مواهبه وزادته إيماناً وصلابة وجعلته يتخلص من أعباء الخوف والرقابة، كذلك الرتابة في رص الأحداث. فها هو يتحدث عن كل السلبيات بمجتمع هجره ولكن بأسلوب استطاع أن يتجاوز الرقيب ويفلت من حسابه. فها أنت أمام عاشق لوطنه، لجده، لعمته، ومن ثم تعددت الأسماء، فالأنثى كان لها حضور مميز بل كانت هاجسه اليومي وكان نقيضها الموت الذي يقترب منه دائماً بل كان يتمناه في لحظاته الأخيرة، فلولا ورده لكان السم تغلغل بشغاف القلب.

 يأخذك الكاتب بكتاب رحلاته هذا إلى معالم ظاهرة للعيان، ولم يكن ثمة مجهول بل أنت تراها في كل رحلاتك، لكن الشاعر الكاتب ألبسها ثوباً آخر واستطاع أن يطرزها بتلك المواقف الإنسانية حتى في أحرج المواقف وأقساها عليه فها هو يقول {حبيبتي المؤقتة}، إذاً فسامي الذي ضعف أمام الأنثى لم يخن مبدأه.

أما اذا عدنا إلى بيت جده ونخلته الوارفة فنجد عروقها ظلت متجذرة عنده ولم تسمح له بأن تستحوذ الغربة وحضاراتها عليه، بل ظل أميناً لذاك الذي علمه بأن خضرة مسباحه وخضرة النخلة هما صيرورته، فبالتالي أصبحتا تعويذته في مسراته وأحزانه.

بعثر سامي الأحداث واستخدام العودة إليها خيطاً غليظاً، بل جسَّد الأحداث من خلال هذا الأسلوب البلاغي وهذه الصراعات. حتى بين الحروف أو علامات التعجب والاستفهام، عزف سامي على وتر اللغة كثيراً، بل أخبر القارئ بأن ثمة كلمة لا توجد في القرآن لأنها تتعارض وقدرة الخالق سبحانه. هكذا يضعك هذا المتمكن أحياناً في حيرة، منذ اللحظة الأولى لوصفه {دفنت سيجارتي الثانية قرب مدفن المرحومة شقيقتها في المنفضة، ووقفت مع الرماد معزياً خيبتي}.

يأخذك من الصفحات الأولى ببحر من التوصيف والاستعارة ويجبرك أن تعود إلى ما حفظته ذاكرتك كي تتواصل مع هذا النهج الجميل.

ثم جاء دور الاقتباس مرجعاً كي يغلق الباب على من يسيء تفسيره {أعيدي قراءتها حتى مطلع الفجر}، أو كالمثل القائل {وهذا هو شر البلية الذي يضحك}.

هكذا سامي، ساح بأرض الله كما ساح بعقولنا ليبهرنا بتلك الآراء الفلسفية أو العبارات البليغة بعد أن وصل الى حالة التطهر عند كهف آرام العظيم. فغسل همومه ورسم له طريق الإنسانية وجعله يكتشف أغوار نفسه.

وأخيراً اعتقد أن سامي يستحق التهنئة والاحتفاء بروايته لأنها تجربة جريئة بحق.

back to top