تحدثت في مقالي السابق عن تعلم كتابة الرواية بالورشات التي تعد الكاتب وتساعده على فهم قواعد وأسس الكتابة الروائية التي تفيد الكاتب الموهوب، لكنها أيضا تشجع على نمو شكل روائي تجاري لا يمثل قيمة حقيقية للكتابة الأدبية المتميزة، بقدر ما يؤهل لانتشار كتّاب حرفيين صالحين لإنتاج نصوص سريعة تغذي الطلب المتضخم لسوق الروايات السهلة الصالحة لمستوى متطلبات هذا الزمن الاستهلاكي الرخيص.

Ad

الجميل في الكتابة أنها حقل وأرض بكر تتطلب من الكاتب الخوض بتجربتها بنفسه، لا عن طريق التلقين الجاهز الذي يُفسد كل مفاجآتها وألغازها وألعابها الفنية الممتعة التي لا تُكتشف إلا عن طريق الخوض في أرض المجهولات السرية والحرث في الغامض والمبهم منها، واكتشاف لذة ألغازها ومتاهاتها الملتفة في أسرارها التي لا تبينها ولا تبيحها بسهولة إلا لمن هتك باطنها وأزاح أستارها عن طريق فض ألعابها المخفية بمكر ودهاء الفن المراوغ الصعب الذي لا يعطي نفسه، ولا يهبها إلا لمن تملكه جنون الشغف المعرفي الحاد المكين، حينها يصبح للاكتشاف لذة الألعاب الفنية الباهرة، وليست دروساً فقدت بهجة ولذة اكتشافاتها.

لهذا أنا أفضّل التجربة أو التجريب الكتابي في الأعمال الأدبية، فهو ليس حكراً فقط على الرواية، وهو المتعة ولذاتها الحقيقية المحصلة من الكتابة، وتعلم الكاتب الأسرار الفنية والقيمة الحقيقية التي تأتي عبر مختبرات الأحاسيس والخبرات الروحية والجسدية والعاطفية ونهم الشغف المعرفي، وهذه المواصفات لا يمكن الحصول عليها عن طريق تعليم الورش الكتابية.

وكمثال للإنتاج الروائي الورشي كتبت في مقالي السابق عن رواية "جارية" التي كتبت وفق شروط ومتطلبات كتابة الرواية، وأجادت الكاتبة تطبيق كل متطلبات كتابتها التي نالت عليها جائزة "كتارا"، لكن الرواية أتت فاقدة العمق الروحي الحقيقي للتجربة التي طرحتها، وبات النص حكياً لا يحرك مشاعر القارئ، ولا يترك أي أثر بعد قراءته كأنه عبور شبحي في فراغ باهت.

وعلى عكس الرواية السابقة نتاج الورشة الكتابية المرموقة، جاءت رواية "عاشقة ولكن" تجربة حسية عصبية عنيفة لشاب كويتي اسمه ضاري خالد العنزي، أظنها كتابته الأولى التي أوقفتني أمامها ملجمة بحيرتي، خصوصاً أني قرأتها مباشرة من بعد رواية "جارية" نتاج الورشة التعليمية، جاءت لي هذه الرواية كمقارنة حادة بينهما، فرواية الورشة جاءت مكتملة كأساسات فنية، لكنها خالية من التجربة والخبرة الحسية والروحية الحقيقية، على عكس رواية "عاشقة ولكن"، التي كانت بالنسبة إلى كاتبها كنزاً من الأحاسيس والمشاعر والخبرات الروحية والعاطفية والهزات العصبية العنيفة الحقيقية، لكنه لم يعرف كيف يستغل هذا الكنز العظيم ويوظفه في تقنيات وأساليب فنية تجعلها أيقونة بشكل فني أدبي عظيم، وفرغها أو وزعها على الورق بحدة حتى يتخلص من ألمها، وروايته ليست أكثر من اعترافات بقصة حبه لفتاة أحبها بجنون، وسجل كل مشاعره تجاهها منذ بدايتها وحتى فراقها، وهذا كل ما في الحكاية التي جاءت بصدق يخترق القلب، لأنه الحب الأول الذي يوشم الروح بتجربة هائلة لا تمحى ولا تنسى، وكان من الممكن جداً لو أنه امتلك أدواته الفنية لاقتنص هذا الطوفان الهائل ووظفه في عمل روائي مهم، ففيضان مشاعره هذه ذكرني بالأيقونة الروائية "ورود سامة لصقر"، لكاتبها أحمد زغلول الشيطي، وهي جحيم من العواطف تجتاح المرء ولا ترحم حتى تقضي عليه، الفرق هنا في القدرة الفنية لأحمد الشيطي الذي وظفها في تقنيات فنية جعلتها أيقونة روائية لم تتكرر حتى من كاتبها ذاته.

وربما يأتي يوماً ما، عندما تنضج خبراته الفنية، ويعود إلى كنزه العاطفي هذا إن لم يكن قد ذبل وتبخر في جريان الواقع الهادر، ويعيد استحضاره وتوظيفه في عمل روائي ناضج يتطلب خبرته الروحية الحارقة هذه التي مر بها، من بعد صقلها وإعادة بنائها في تركيب تقني فني مكتمل.

قراءة الروايات أحياناً، سواء كانت مكتملة أو ناقصة، ضعيفة أو قوية، تفيد الكاتب وتنبه إلى مناطق الضعف والقوة في العمل الروائي، وتقوده إلى مسارات النجاح والفشل فيها.

من جمل الشاب ضاري العنزي العاطفية: "برود التعامل، ولكن برود المشاعر يقتل كسم بطيء".

"جربي أن تبتعدي عني، وسترين كم هو سهل الاختناق بوجود الهواء".