تستحق تجربة الانتخابات التركية الدراسة خصوصاً من الإيرانيين وأحزاب الإسلاميين السنّة والشيعة معا، في مصر والعراق وإيران وبلاد الشام كلها وشمال إفريقيا، فكل هذه الدول لايزال الإسلاميون فيها متأثرين في فهمهم وتحليلهم ونموذجهم السياسي بالمدارس الشمولية والأنظمة التسلطية.

Ad

الانتخابات التركية الأولى والثانية خلال بضعة أشهر كانت بلا شك مشهداً نادرا على الصعيد "الإسلامي" يستحق دراسة متأنية ووقفة متأملة من كل الشيعة المؤيدين لمنهج الانتخابات الإيرانية وما يحيط بها ويحدد مسارها.

انظر كيف دخلت الجمهورية التركية الانتخابات بكل ثقة واحترام، وخرجت منها باحترام وتقدير أكبر، دون قمع ودون مظاهرات وسجون، وبدون تدقيق أسماء المرشحين لعضوية البرلمان من أجهزة الأمن والاستخبارات، ودون منع أي تيار أو حزب معارض من ترشيح نوابه، ودون تهديد وحظر أي جماعة قومية أو أتباع أي مذهب، بما في ذلك أتباع المذهب العلوي من الأتراك والأكراد الذين يعدون بالملايين، والذين لا يصوتون عادة لإردوغان أو لحزب "العدالة والتنمية" والذين لا يتبعون كذلك مذهب أهل السنة والجماعة، والذين يعارضون أشد المعارضة الموقف الرسمي للحكومة التركية وحزب العدالة والتنمية من النظام السوري والثورة القائمة.

تركيا تريد قيادة المنطقة كما تريد إيران، لكنها لا تعمل على تصدير الأفكار وخلق الجماعات والتنظيمات والأحزاب الموالية التي تسيرها المصالح التركية من أنقرة وإسطنبول، إلا إذا أحبت هذه الأحزاب الإسلامية ذلك كالإخوان المسلمين وربما حزب التحرير أو أي جماعة إسلامية أخرى متعاطفة مع التيار الذي يقود تركيا.

تركيا إسلامية مثل إيران، وهي دولة رئيسة وسط محيط واسع من المسلمين السنّة وعددهم أكثر من مليار ونصف المليار، والكثيرون يتعاطفون معها لأسباب تاريخية ودينية وسياسية، لكن تركيا لا تفرض على نساء أنقرة وإسطنبول وإزمير وأدنة وديار بكر الحجاب منذ سن السادسة أو التاسعة مثل إيران، ولا تحرم فتيات تركيا من بعض التخصصات الجامعية، بل لا تفرض عدم الاختلاط في الجامعة.

تركيا كبلد إسلامي مجتمع يختلف عن الدنمارك والسويد ولكن هامش الحريات الشخصية والاجتماعية لا يزال واسعا للرجل والمرأة، والسياحة في ازدهار ونمو واسعين، وتقول "الشرق الأوسط": "إن حجم الإيرادات من قطاع السياحة التركي وحده يقدر بنحو 35 مليار دولار سنويا، حصيلة زيارة أكثر من أربعين مليون سائح كل عام". (24/ 10/ 2015).

لا نفط في تركيا مقارنة بجمهورية إيران الإسلامية والعراق والدول الخليجية، ولكن مليارات الدولارات تتدفق على مدن تركيا واستثماراتها العقارية والصناعية، وكل الأسواق العربية والإسلامية والدولية مفتوحة أمام بضاعتها التي تتحسن باستمرار. تقول الصحيفة نفسها عن الاقتصاد التركي "احتلت أربع مدن تركية مراكز في قائمة أفضل عشر مدن عالميا في مجال النمو العمراني المدني عام 2014، والتي تعدها مؤسسة بروكينغز الأميركية، كما حصدت تركيا عقودا عالمية بقيمة تصل إلى نحو 46 مليار دولار، مما يجعلها أحد أبرز دول المنطقة نمواً وجذبا للاستثمارات".

ورغم انعدام الثروة النفطية، قفزت تركيا خلال السنوات العشر الأخيرة من المركز 111 عالميا، للوصول إلى مجموعة من العشرين الأفضل عالميا، وقد أشارت مجلة MEED الأسبوعية المختصة بالاقتصاد الشرق أوسطي، إلى أن قيمة المشروعات التركية "تبلغ تقديراتها نحو 257 مليار دولار، مما يضعها مباشرة خلف السعودية والإمارات العربية المتحدة من حيث قيم المشروعات في المنطقة". (الشرق الأوسط، 24/ 10/ 2015).

الثقافة والفنون وحركة الطباعة والنشر لا تزال حرة في تركيا، والإسلاميون لا يحاولون حتى الآن أدلجة المجتمع وخنقه أو التسلط على فكره "وأسلمة" كل بيت ومدرسة، وكل سوق ومبنى، وكل طالب وطالبة. تركيا تملك المليارات وجيشا قويا، وهناك كما نشاهد ونعرف مخاطر كثيرة تهددها في الداخل والخارج، كما أن تراثها التاريخي العثماني موغل في العسكرة والتوسع والفتوح، لكنها لا تفكر في السلاح النووي مثل إيران والقنابل الذرية مثل باكستان، ولا تهدد سكان البحر المتوسط والبحر الأسود أو تحاول ضم جمهورية أرمينيا أو دول البلقان، ولا تصرف الأموال الطائلة على السلاح والصواريخ وبناء الغواصات والأقمار الصناعية، وعلى الأحزاب والجماعات الموالية لها في أي بلد عربي أو إسلامي، بل لا تحاول بناء حزب من أهل السنّة الشوافع في اليمن أو أهل السنّة الأحناف بين مسلمي وسط آسيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابقة، وكلهم من الأتراك أصلاً ولغة وثقافة، ينتمون إلى "طوران" من تركيا إلى غربي الصين. ثم إن إيران نفسها موطن لملايين الأتراك الأذريين في الشمال خاصة، في حين لا وجود للفرس في تركيا! ولو كانت تركيا دولة مغامرة لتحركت مثلاً بين أتراك إيران! كما أن تركيا أقرب من إيران إلى إسرائيل وأكبر قدرة على الإضرار بها لكنها لا تشجع حتى أهل غزة على التظاهر والزعيق "الموت لأميركا وإسرائيل"، كما يفعل الإيرانيون.

وتعاني تركيا إرهاب بعض القوميات والجماعات فيها، لكنها لا تقوم بإعدام المشاركين في النشاطات الإرهابية فجأة ودون محاكمة ودون حضور المحامين ومشاركة الإعلام والصحافة.

إن في التجربة التركية وبخاصة المنافسة الحزبية وحرية الانتخابات وعدم الانغلاق باسم الدين والإسلام، ما يستحق الإشادة والتقدير والاقتباس.

التجربة التركية تستحق الدراسة خصوصاً من الإيرانيين وأحزاب الإسلاميين السنّة والشيعة معا، في مصر والعراق وإيران وبلاد الشام كلها وشمال إفريقيا، فكل هذه الدول لايزال الإسلاميون فيها متأثرين في فهمهم وتحليلهم ونموذجهم السياسي بالمدارس الشمولية والأنظمة التسلطية.