إن مكافحة الإرهاب والحالة التكفيرية عملية غير مقصورة على الجانب الأمني، بل هي عملية تحتاج لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية قد تأخذ سنوات طويلة، لكننا بحاجة للشروع فيها، فيجب أن تقل الجرعة الدينية الرسمية في الدولة.

Ad

حذرنا في الأسبوع الماضي من التلاشي التدريجي لحالة اللحمة الوطنية التي سادت من جديد بفضل الدماء الطاهرة التي سالت من جراء التفجير الإرهابي الآثم في مسجد الإمام الصادق (ع) ما لم نستغل الفرصة لإجراء عدة تغييرات جوهرية في الكويت، فتنامي حالة التطرف في المجتمع مهد لذلك التفجير، فهو ليس وليد اللحظة لكنه نتاج عدة عوامل سياسية واجتماعية على مدى عدة عقود من الزمن.

ولعل نقطة التحول كانت بعد حل مجلس 75 وحل نادي الاستقلال وإطلاق يد التيار الديني المتطرف في المجتمع وتمكينه من أجهزة الدولة، وخصوصا في وزارتي الأوقاف والتربية، ونتيجة لذلك بدأ التطرف والإقصاء يغزوان المناهج، وازداد عدد أئمة المساجد المتطرفين الذين يكفرون المذاهب جهارا نهارا في التلفزيون ومواقع التواصل الاجتماعي، خصوصا مع ازدياد المصليات العشوائية التي تحولت بفعل الضغوط السياسية إلى مساجد رسمية، وخاصة مع تحول كلية الشريعة إلى كلية قائمة بذاتها يشرف عليها أساتذة حصل بعضهم على شهاداتهم من جامعات تغذي التطرف والإقصاء، وازدياد عدد الطلبة المنخرطين فيها بشكل كبير دون حاجة سوق العمل لهم، حيث تقدر دراسة قامت بها جامعة الكويت أن فائض خريجي هذه الكلية عن حاجة سوق العمل يقدر بـ600% خلال سنوات الخمس القادمة.

كل هذه العوامل أنتجت لنا جيلا تشبع بالنهج الإقصائي، وما زاد الطين بلة نظام الدولة الاقتصادي القائم على تكديس المواطنين في جهاز حكومي مترهل، في حين ترك للوافدين القيام بتقديم الخدمات، وهذا النظام ساهم في تخندق الناس على فئاتهم العرقية والطائفية بعد أن تحولت مؤسسات الدولة إلى ساحة معركة للتنافس على النفوذ والمناصب، بدلا من أن يتجه الناس للعمل الحر والتجارة وتبادل الخدمات بينهم حتى يحس جميع المواطنين بأنهم بحاجة بعضهم.  

وجاء الخريف العربي ليشكل فرصة لهذه الحالة التكفيرية أن تخرج للعلن لنرى حملات تجهيز الغزاة وتحول ساسة ودعاة وأساتذة شريعة إلى تجار دم وأسلحة لتمويل حروب أهلية، ورأينا معلم الأجيال الذي يتلذذ بالنحر (وما زال على رأس عمله)، ورأينا نجوم "تويتر" المجاهرين بالمصطلحات التكفيرية الطائفية، وكل ذلك تحت نظر الحكومة التي يبدو أنها نسيت الويلات التي حلت ببلدنا نتيجة الانحياز في الحروب لمصلحة طرف ضد آخر كما جرى في الثمانينيات، وزاد طبعا من شدة الاستقطاب وتنامي الحالة التكفيرية مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت تعبر عن العقل الباطن للناس بدون أي تحفظ.

ولا ننسى طبعا أزمة (البدون) التي ازدادت تعقيدا بسبب تراخي الحكومة عن حسمها، والتي حذر الكثيرون من آثارها السلبية، وها نحن نرى نتائجها الآن في التفجير الآثم، فعندما عزلت الدولة هذه الفئة سكنياً ليعيشوا الفقر والحرمان لوحدهم في كانتوناتهم، جاءت اللجان التكفيرية لتملأ الفراغ، وتعرض على بعض أبنائها التطرف والغلو مقابل المال والعمل لديها، وازدياد الجريمة بين أبناء هذه الفئة بشكل عام ليس مصادفة ولا نتيجة لوراثة جينية أيضا، بل هو نتيجة طبيعية للظلم والتضييق عليهم، فالحرمان والفقر صعبان، لكنهما أكثر صعوبة في بلد الخير والثروة، وهناك دراسات أكاديمية أثبتت أن هناك علاقة طردية بين ازدياد الجريمة وازدياد الظلم وغياب العدالة الاجتماعية في المجتمعات.

وهذه الحالة ليست مقصورة على الكويت فقط، بل موجودة في أميركا أيضا بين الأميركيين من أصول إفريقية، حيث تكثر الجريمة بينهم بسبب الفقر والحرمان وعزلهم في مساكن شعبية (كما هي حال الصليبية) نتيجة لإرث العبودية في هذه الفئة، ولهذا صدر قانون (Affirmative Action) في الستينيات يضمن لهذه الفئة ولبقية الأقليات حقوقا في التعليم ونصيبا من التوظيف ليتمكنوا من الخروج من مستنقع الفقر والجهل، وهو قانون حقق هدفه إلى حد ما لكن ما زالت هذه المشكلة قائمة نتيجة ازدياد الفجوة بين الأغنياء والفقراء في أميركا بشكل عام خلال العقود الأربعة الماضية، وأيضا لا ننسى المظاهرات العنيفة التي قامت بها الأقليات في ضواحي باريس قبل عقد تقريبا نتيجة حالات الفقر والحرمان نفسها التي يعانونها، والتي أدت إلى تنامي الكراهية بينهم على الدولة والنظام نتيجة قلة فرص تحسين الحالة المادية والاجتماعية.

الخلاصة أن مكافحة الإرهاب والحالة التكفيرية عملية غير مقصورة على الجانب الأمني (وإن كان مهماً) بل هي عملية تحتاج لإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية قد تأخذ سنوات طويلة، لكننا بحاجة للشروع فيها، فيجب أن تقل الجرعة الدينية الرسمية في الدولة، والخلل هنا ليس في الدين نفسه بل في الناس، حيث أثبتت التجارب أن ازدياد التدين لدى الكثيرين يؤدي إلى ازدياد تطرفهم وعدم تقبلهم للآخر لوجود فكر متطرف توغل في تاريخ الإسلام.

ويجب أن نخفض حجم الوظائف الحكومية ونوجه المواطنين للعمل الخاص والحر لنخلق اقتصادا منتجا حتى ينشغل الناس بكسب قوت يومهم بدلا من البطالة المقنعة التي وجهت البعض للتكفير والتطرف، كما يجب حسم مشكلة البدون وحلها وضمان حياة كريمة لهذه الفئة وتقليل الفجوة بين فئات المجتمع.

 وللحديث بقية.