ما زال المصريون حريصين على التوجه العروبي والانتماء الإفريقي والدور الريادي والاستقلال الوطني، وهم أيضاً تواقون إلى الكرامة، وهي أمور بدت بعيدة خلال العقود الأخيرة، وإن كانت محل توافق بين القطاعات الغالبة من الجمهور، كما ظلت النزعة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية موجودة، والمطالبة بالعودة إلى «التنوير» لا تتوقف.

Ad

حلت الذكرى الثالثة والستون لثورة يوليو المصرية يوم الخميس الماضي، في وقت تضاءلت فيه مظاهر الاحتفال بذكرى تلك الثورة بشكل واضح، وبات الحديث عن مركزية دورها في التطور السياسي والاجتماعي لمصر والمنطقة العربية أكثر خفوتاً.

لقد مرت أحداث جسام على مصر والمنطقة العربية منذ اندلاع شرارة يوليو في عام 1952، فقد تم إنهاء حكم أسرة محمد علي، وطرد الملك فاروق، وإصدار قوانين الإصلاح الزراعي، وإعلان الجمهورية، قبل تأميم قناة السويس، وصد العدوان الثلاثي في عام 1956.

عندما أمم الزعيم الراحل عبدالناصر قناة السويس في يوليو من عام 1956، كان يكرس مكانة الثورة ودورها من جهة، ويدشن دوره الوطني والقومي والأممي من جهة ثانية، ويفتح صفحة ناصعة في التاريخ في الوقت ذاته.

ورغم الهزيمة العسكرية في الحرب التي شنتها إسرائيل وفرنسا وبريطانيا ضد مصر غداة تأميم القناة، فإن ثورة يوليو، وزعيمها الكاريزمي عبدالناصر، استطاعا عبور تلك الهزيمة إلى نصر سياسي مظفر، بمساندة سخية من جماهير الشعبين المصري والعربي وأحرار ومتعاطفين من دول العالم المختلفة.

وبعد نجاح "دولة يوليو" في إنشاء السد العالي، وتعزيز سياسات التصنيع، وبلورة الدور الإقليمي والقاري والدولي، من خلال دعم حركات التحرر الثورية، جاءت سياسات التأميم، والميل إلى المعسكر الشرقي، وهي السياسات التي عمقت العداء مع إسرائيل والولايات المتحدة والعالم الغربي بشكل عام.

أخفقت "يوليو" إخفاقاً واضحاً في مشروع الوحدة المتسرع مع سورية، وانتهى الأمر بندبات وجروح لم تندمل سريعاً، وبعدها تورطت في اليمن، وهناك تم استنزاف الدولة والجيش، بشكل لم تعوضه عوائد خطط التنمية الخمسية المظفرة، التي شهدتها حقبة الستينيات من القرن الفائت.

ومع تسمم الأجواء العربية، خصوصاً مع دول الخليج العربية، وفي ظل تصاعد الاحتقان الغربي من الأدوار الناصرية على المستوى الدولي والإقليمي، تورط      عبد الناصر ليقع في فخ "حرب يونيو"، وفي هذه الحرب تم العصف بكثير مما أتت به "يوليو" من إنجازات، ووضعت الثورة ومعها الدولة والجيش على المحك.

لكن قدرة "يوليو" على استيعاب الصدمة كانت كبيرة، بحيث تمكن عبدالناصر من العودة إلى البناء والقتال خلال شهور قليلة، بل إنه أخضع نظامه كله لعملية مراجعة وتنظيم بدت ثمارها واضحة في مراجعات سياسية وفكرية وتنظيمية وميدانية، وانعكست بوضوح في إعادة بناء الجيش، الذي خاض حرب الاستنزاف بشرف واقتدار.

سيمكن القول إن "نصر أكتوبر 1973" أحد إنجازات "يوليو"، وإن كان عبدالناصر يظل المسؤول الأول عن "نكسة يونيو". لكن ما حدث بعد ذلك على يد أنور السادات، أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار، ورفيق عبدالناصر ونائبه، لم يكن إلا "تصفية منهجية لثورة يوليو وانقلاباً صريحاً عليها".

بدأ السادات عصره بالقول إنه "سيسير على خطى عبدالناصر"، لكنه فعل العكس تماماً، حتى خرجت النكتة الشهيرة التي تقول إن "السادات سار فعلاً على خطى عبدالناصر... لكن بممحاة".

تم الانقضاض على سياسات ناصر الاجتماعية، وعوضاً عن سياسة "عدم الانحياز" أو التحالف مع دول المعسكر الشرقي، أعلن السادات أن "99% من أوراق اللعب بيد أميركا"، وصولاً إلى الصلح المنفرد مع إسرائيل، وهو الصلح الذي عزل مصر عن العالم العربي، وحرمها من محيطها، وحرم محيطها من مركزه في آن.

ليس هذا هو أسوأ ما فعله السادات بالطبع، إذ كان فتح الطريق أمام جماعات "الإسلام السياسي" سياسة منهجية تبناها هذا الزعيم اعتقاداً منه أنها يمكن أن تجنبه التصادم مع أنصار عبدالناصر وقوى اليسار الأخرى، وفي هذا السياق، أطلق السادات على نفسه لقب "الرئيس المؤمن"، وعلى مصر "دولة العلم والإيمان"، ومرر تعديلاً دستورياً يجعل "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيس للتشريع"، قبل أن تستفحل الفتنة الطائفية والتمييز في عهده، ويغتاله الإسلاميون الراديكاليون يوم احتفاله بنصر أكتوبر في عام 1981.

ما فعله مبارك، الذي حكم البلاد ثلاثة عقود، لم يكن إلا سيراً على الطريق ذاته، لكن بدأب وإخلاص أكبر. لقد صفى مبارك بإصرار بالغ معظم منجزات "ثورة يوليو"، فقد فكك البنية الصناعية التي بناها عبدالناصر و"خصخصها" في عمليات مشبوهة ما زالت المحاكم تتداول قضاياها حتى الآن، كما خرب التعليم المجاني بشكل منهجي، وفتح الباب أمام التعليم الخاص للتوسع على حسابه، ورغم أن التراب الوطني لم ينتهك في عهده بالاحتلال، فإن القرار الوطني لم يكن مستقلاً بالشكل الذي كرسته "ثورة يوليو" وأرادته وعملت من أجله.

اتسعت الفجوة بين الطبقات في عصر مبارك، وانسحقت الطبقة الوسطى القوية التي بُنيت بدأب على مدى عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الفائت، وسادت درجة من الظلامية، وهيمنت أنماط الفن والإعلام الرديئة، وانسحبت مصر من الإقليم والقارة الإفريقية، وباتت مكانتها الدولية في حال بائسة.

فماذا تبقى من "يوليو" في عيدها الثالث والستين؟

لقد حرص عبدالناصر على أن يجعل من التعليم وسيلة للصعود الاجتماعي، وعزز فكرة المساواة وعدم التمييز الطبقي أو الديني أو الفئوي بين المواطنين، وهذه الأمور ما زالت ملهمة للمصريين، وإن كانت تعرضت للتجريف على مدى العقود التي تلت غيابه.

ما زال المصريون حريصين على التوجه العروبي والانتماء الإفريقي والدور الريادي والاستقلال الوطني، وهم أيضاً تواقون إلى الكرامة، وهي أمور بدت بعيدة خلال العقود الأخيرة، وإن كانت محل توافق بين القطاعات الغالبة من الجمهور، كما ظلت النزعة إلى تحقيق العدالة الاجتماعية موجودة، والمطالبة بالعودة إلى "التنوير" لا تتوقف.

لقد تحولت "يوليو" إذاً من سياسات جسدتها ثورة على الأرض إلى نزعات ومطالب وقيم، وقد قامت "ثورتان" في مصر، كما يرى كثيرون، بعد "يوليو"، لكن أياً منهما لم تنجح بعد في تحويل تلك المطالب إلى سياسات وحقائق.

تبقى "يوليو" ملهمة، وتظل سيرتها براقة، رغم التعثر والإخفاق.

* كاتب مصري