في الأسبوع الماضي صدرت أحكام جديدة بالإعدام في حق قادة من تنظيم "الإخوان" في مصر، من بينهم الرئيس الأسبق محمد مرسي، وهي الأحكام التي ملأت الدنيا وشغلت الناس، واستدعت ردود فعل وتداعيات واسعة ومتباينة. ندد قادة في تنظيم "الإخوان"، من المقيمين في الخارج بالأحكام بطبيعة الحال، وهددوا بـ"إشعال الأوضاع والقصاص من السيسي، وقاضي العسكر، ومفتي العسكر، وشيخ العسكر"، في إشارة إلى القضاة المصريين، ومفتي الجمهورية، وشيخ الأزهر.
وفي الداخل، أظهرت متابعة وسائط التواصل الاجتماعي غلياناً كبيراً في أوساط التنظيم والمتعاطفين معه، وشتائم، وتهديدات مباشرة وصريحة بقتل الرئيس وأعضاء الحكومة ومنسوبي الجيش والشرطة والقضاة والإعلاميين وكل من يؤيد أحكام الأعدام.ليس من الصعب على أي مهتم أن يستعرض ما يكتبه منسوبو التنظيم والمتعاطفون معه على مواقع التواصل الاجتماعي، والأسهل من ذلك طبعاً متابعة ما يصدر عن قنوات "الإخوان" الفضائية التي تبث من تركيا، حيث يمكن بكل سهولة رصد التهديد الصريح والتحريض الواضح على إشعال البلاد، وقتل كل من ينتمي إلى أجهزة الدولة أو يعارض التنظيم ويعمل ضده. إثبات إرهاب "الإخوان" ليس مسألة تحتمل النقاش؛ فقد قتلوا جنوداً وضباطاً ومدنيين وقضاة، وفجروا القنابل في جميع محافظات مصر، ولم يدن أي من قادتهم عملية إرهابية واحدة.على الصعيد الخارجي، كان لافتاً أن عدداً من دول العالم، وخصوصاً في الغرب، انتقد الأحكام، ورأى فيها خلطاً للسياسي بالقضائي، فضلاً عن معارضة فكرة الإعدام في الأساس، في ظل إلغاء تلك العقوبة في عدد من الدول المتقدمة. إن تلك الانتقادات يمكن توقعها بكل تأكيد؛ إذ تعكس مواقف مبدئية وشبه مبدئية للأطراف الصادرة عنها، لكن العامل الجديد في هذا الصدد أن عدداً كبيراً من الكتاب والمحللين العرب والمصريين كتب منتقداً تلك الأحكام، ومطالباً بتدخل سياسي من جانب الرئيس عبر إصداره عفواً أو تخفيضاً للعقوبة، بشكل يفتح الباب لمصالحة مع تنظيم "الإخوان"، بداعي تخفيف الاحتقان في البلاد، ولجم العمليات الإرهابية.على مدى الأيام الثلاثة الماضية قرأت عشرات التحليلات والمقالات والتصريحات التي تنتقد الأحكام وتعتبرها مسيسة من جانب، والتي تدعو إلى "مصالحة" و"حل سياسي" مع تنظيم "الإخوان" من جانب آخر.ويمكن القول إن القاسم المشترك بين كل تلك التحليلات كان الحديث عن "الظهير الشعبي الذي يضم (الإخوان) و(الإسلاميين) والمتعاطفين معهم، والذين لا يمكن تجاوزهم أو إلغاؤهم بأي حال من الأحوال" من جانب، وحض السلطات المصرية على اتخاذ خطوات في طريق احتواء آثار المحاكمات القضائية لعناصر "الإخوان"، وصولاً إلى حل سياسي، يفضي إلى مصالحة من جانب آخر.وعشية صدور الأحكام الأخيرة، كان لافتاً أن يوسف ندا مفوض العلاقات الدولية السابق لتنظيم "الإخوان" الدولي وجّه رسالة إلى قادة الجيش المصري، وهي الرسالة التي يمكن اختصارها في عنوان بسيط ومحدد على النحو التالي: "دعوة إخوانية للتحاور مع قياديين في الجيش بغرض تحقيق تفاهم أو تعاون". ثمة الكثير مما يمكن استخلاصه من هذه الرسالة وصاحبها وطريقة نشرها وتوقيته، على النحو التالي:أولاً: هناك جناح في "الإخوان"، وعلى الأرجح بين "إخوان التنظيم الدولي"، بات يدرك أن استمرار الأوضاع على ما هي عليه من دون أفكار إبداعية سيطيح بعالم التنظيم لعقود، وسيفاقم الأثمان التي سيدفعها خصوصاً في مصر وبعض بلدان المنطقة الأخرى.ثانياً: إن تراخي الدعم القطري، وغموض مستقبل الدعم التركي، في ظل التطورات السياسية الأخيرة في بلد الخلافة العثمانية، وفعالية الجهود المصرية لتجفيف مصادر التنظيم المالية، وزيادة حدة القبضة الأمنية في الداخل، بموازاة النجاحات المتتالية في ملف السياسة الخارجية، وبدء تغير المواقف الغربية الداعمة للتنظيم، كلها عوامل تعزز ضرورة إيجاد حل بعيداً عن الاستمرار في المواجهة.ثالثاً: تعرض الرسالة "التخلي عن بعض الحقوق من أجل إنقاذ مصر"، و"الجنوح إلى السلم"، والوصول إلى اتفاق يخدم الشرعية لكن بـ"وسائل جديدة"، لأن هناك "وسائل كثيرة لتثبيت الشرعية"، لكنها تتجاهل الشعب تماماً ولا تعول عليه أو تستدعيه. سيمكننا أن نستخلص من ردود الفعل السابقة كلها، والرسالة التي أرسلها ندا إلى قادة الجيش في مصر، عدداً من النتائج على النحو التالي:أولاً: إن كل الانتقادات والتقييمات لأحكام الإعدام الأخيرة في مصر لا تتحدث عن موقف الشارع منها، وهو الموقف الذي يمكن وصفه ببساطة بأنه "مؤيد للغاية" لتلك الأحكام، في أغلبيته ومجموعه العام، باستثناء الأقلية "الإخوانية" بطبيعة الحال.ثانياً: إن تلك التقييمات تتجاهل أن تنظيم "الإخوان" يمارس القتل والإرهاب ضد المصريين، ويدعمه، ويحرض عليه، ويباركه، وفي أقل تقدير فإنه لا يدينه إدانة واضحة ولا يتنصل منه.ثالثاً: إن الحديث عن ضرورة اتخاذ الدولة خطوة نحو المصالحة، مثله تماماً مثل دعوة يوسف ندا التي تتخطى الجمهور وتذهب إلى الجيش، حديث قاصر وغير نزيه، لأنه يطلب من صاحب الحق الأخلاقي والقانوني أن يخطو نحو المصالحة تجاه المعتدي وداعم الإرهاب.رابعاً: يجب ألا يكون القضاء في مصر وسيلة للانتقام أو أداة لمحاربة الإرهاب والإرهابيين، ولكن يجب أن يكون أداة لتحقيق الإنصاف والعدالة، وعليه أن يضمن محاكمات عادلة وشفافة لأي متهم مهما كان الاتهام الموجه إليه. وفي ذلك الصدد، سيمكن لكثيرين أن ينتقدوا أحكام الإعدام الأخيرة، خصوصاً لجهة عددها، أو وفائها بمعايير المحاكمة العادلة، أو تعرضها لضغوط الرأي العام، وسيمكننا أيضاً أن نطالب بتعزيز الشفافية والنجاعة في مرفق العدالة حيال تلك المحاكمات وغيرها، لكن هذا يجب ألا يكون دافعاً لحمل الدولة على الخضوع لابتزاز الإرهابيين.خامساً: إذا كان هناك من يريد فعلاً لمصر أن تتخطى تلك المحنة، وتعود إلى مسارها ومكانتها، فعليه أن يطالب "الإرهابي" بالكف عن الإرهاب، ثم تقديم الاعتذار الواجب، ثم مخاطبة صاحب المصلحة والحق الأصلي... الشعب المصري، عندها سيمكن أن يبدأ الحديث الجاد عن إمكانية المصالحة.* كاتب مصري
مقالات
مصالحة مع «الإخوان» أم خضوع للإرهاب؟
21-06-2015