يرى معظم الحكام العرب أن من ينتقدون أداءهم وأداء الحكومة أفراد لا يعجبهم العجب، وأنهم سينتقدون للانتقاد فقط، وللظهور بمظهر الشجعان الذين لا يخشون أن يقولوا أي شيء وعن أي شيء، ولذلك هم لا يمانعون أن يتواجد هؤلاء في الصحافة أو في الندوات لأن هذا يعطي أنظمتهم صفة الديمقراطية وسيادة حرية التعبير، وماذا يضر؟ فليقولوا ما يريدون ونحن نفعل ما نريد.

Ad

هم يرون في النقاد فئة ضالة أو لم تجد فرصة للكسب غير المشروع، وقد جربت معظم هذه الحكومات إثبات نظريتها تلك، وتمكنت من شراء بعضهم وتحويلهم إلى جوقة المطبلين والمنافقين. بعض هذه الحكومات لا يرى الأخطاء والتجاوزات، وبعضها لا يريد أن يعرف، والبعض يعرف ويعتقد أن أحداً لا يستطيع تغيير ما يريد، فهو صاحب الأمر والحاكم الذي لا ينازَع، وليشرب من لا يعجبه من ماء البحر.  في آخر أيامه في الحكم، نشر حوار مع إحسان نراغي مستشار شاه إيران دار حول كتاب عنوانه "من بلاط الشاه إلى سجون الثورة" أتمنى أن يقرأه كل الحكام. كان الشاه يبدو مفاجَأ بالثورة التي تستعر في بلاده، واستماع الناس الذين ظن أنهم شعبه إلى رجل دين خارج البلاد، والقيام بثورة تزلزل حكمه. كان يسأل مستشاره: لماذا؟ لقد عملت كل شيء من أجل البلد ومن أجل الشعب، وعدد المشروعات التي قام بها والأموال التي صرفها على هذه المشروعات وكيف خطط لإدخال إيران إلى عصر التقدم والتكنولوجيا وبناء المساكن والطرقات... ووو، فكان رد المستشار، وإن كان في رأيي متأخراً، أن كل هذه المشروعات نفذتها جماعتك من أهلك وأصحابك ونهبوا في مقابلها المليارات، ولذلك لم يرها الناس لصالحهم، بل لتنفيع أهلك وأصحابك، إنهم يثورون لأن كل مشروعاتك صبت في جيوب أناس لا علاقة لهم بهم وبأغلى الأثمان. الناس ترى أنك استغللت حاجتهم ووضعت خطط الدولة لمصلحة أهلك وجماعتك، لا لمصلحة البلاد، كره الناس هذا العبث الذي كنت تظن أن الناس غير واعين به، واستمعوا لأول صوت وعدهم بوقف هذا العبث.

ربما تأخر كثيراً مستشار الشاه في مكاشفته وتبيان مخاطر ما يجري عليه قبل أي أحد آخر، وربما كان ناصحاً له منذ البداية ولم يستمع. حجة الحكام من هذه الشاكلة جاهزة أمام النقد، إنهم حساد ولو كانت لهم مصلحة ما انتقدوا، هكذا بكل بساطة يعمي الغرور أبصارهم فلا يدركون ما تفعل تصرفاتهم بمستقبل أوطانهم ومستقبلهم، لقد تعامى الشاه وظن أنه يخدم بلده، فيمَ يهمه من قام بتنفيذ المشاريع؟ المهم أن المشروع نفذ، وليس لأحد حق في نقد ما أفعله، ولمن أعطي وممن آخذ، أنا أعطي وأنا آخذ يا شعبي العزيز.

هذا ما يفعله جل حكام العرب، وربما معظم الحكام المتفردين بالسلطة أو المنمقين لها أو المغلفين لها بمؤسسات ونظم ودساتير، لكن الحكم والتنفيذ يظلان بأيديهم، وحين يموتون تظل في يد أبنائهم وذويهم.

التاريخ لا يقرأ، وإن قرئ فهو لا يعنيهم... هم قمة العدل والعطاء والبذل والبناء، فلِمَ يتذمر الناس؟ لم يثورون؟ لم يقل أحد لحاكم إن ما تصرفه من أموال الشعب لا يوازي ما نفذ، وإن نفذ لا يدوم، لأن المستفيد في نهاية المطاف مقاول قريب أو صديق لا يأبه بجودة ولا يخاف رقيباً، فلا يرى الناس إلا أفراداً تصل ثرواتهم إلى السماء، ومشروعات هزيلة تكثر عيوبها بعد فترة قصيرة.

دفع شاه إيران مليارات من أجل بناء الجيش الإيراني، واستقدم آلاف الخبراء العسكريين لتدريب الجيش على ترسانة الأسلحة التي اشتراها من دم الإيرانيين، وذهبت أموالها إلى الأقارب والأحباب، فماذا حدث للجيش العظيم؟ ولماذا لم يدافع عن ولي نعمته؟ لماذا هزمته تظاهرات سلمية في الشوارع؟ لأن كل الأحباب والمقربين والمستفيدين ما إن أحسوا بقرب الزوال حتى أخذوا كل غال وثمين وتركوه وحيداً يواجه الثورة. ولاؤهم لم يكن له، بل للمال، وقد جمعوه وهربوه، ثم لحقوا به فما حاجتهم إلى الشاه؟

كتاب لابد أن يقرأه كل الحكام بأنفسهم لا عن طريق من يلخص ويختار ما لا يزعج الحاكم من بين صفحاته.