في حديث سابق أشرت إلى كتاب المفكر الإيراني مهدي أمين رضوي (منشورات أوكسفورد): «نبيذ الحكمة»، عن عمر الخيام، في حياته، شعره وفلسفته. والخيام، كما نعرفه، شاعرٌ بالدرجة الأولى، رغم أنه رجل كتب فلسفيةٍ وتصوف. تُقدر وفاته بسنة 515هـ. أي في القرن الذي ختم فيه الشعر العربي مراحل إنجازه لشعره، الذي نفخر به اليوم. قبل أن يدخل في عتمة مرحلته المظلمة، التي انصرف فيها الشعر إلى العبث واللعب اللفظيين.

Ad

الكتاب يبدأ مع «معترك الإيمان والعقل»، الذي تمثله «المدرسة الخيامية»، «ففي شعر الخيام نرى معالجة المحاور التي تشكل نسيج شرطنا الوجودي»، ثم يثبت هذه المحاور: 1- سرعة زوال الكائن الإنساني، ومعنى الحياة. 2- مسألة العدالة الإلهية، والعدالة عامة. 3- مسألة الهُنا والآن. 4- الشك والحيرة. 5- الموت والآخرة. 6- الحتمية والأقدار. 7- في النبيذ تكمن الحقيقة.

هذه المحاور لمْ تُعالَج في شعر الخيام بلغة الفيلسوف، بل بلغة الشاعر. مع أنها شكلت «نظاماً موحداً». ولعل المقارنة بالنظام الفلسفي الموحد لدى المعري، في «اللزوميات» بشكل خاص، واردة هنا. لأن شاعرنا العربي عالجها بلغة الفيلسوف في أحيان كثيرة، الأمر الذي جفّل بعض قرائه عنه. في حين تصح المقاربة مع أبي نؤاس.

ما أريد التنبيه إليه هو أن انفراد «المعيار الجمالي» بتقويم شعر الخيام، أو أبي نؤاس أو المعري يبدو لي عبثاً خالصاً. فمحور «عدم الثبات أو سرعة زوال الكائن»، مثلاً، وهي أطروحة مركزية في شعر الخيام، ويمكن أن ترد بيسر في حنجرة أم كلثوم كأغنية، تحمل شبهاً بأطروحات الفلسفة البوذية، والأبيقورية. الشاعر يخبرنا أن الحياة ليست سريعة الزوال فحسب ولكنها أيضا مجحفة وغير عادلة. وسيظل اللغز قائماً في تساؤلنا: لماذا يسمح الله العادل بوطأة المعاناة، في دورة مستمرة من الولادة حتى الموت؟

وفي ضوء عدم ثبات الحياة وهذا الوجود الغارق في المعاناة، لم يبق خيار للحكيم سوى التركيز على «الهُنا» و«الآن»، الأمر الذي يشكل المبدأ الثالث من الفكر الخيامي. التركيز على «هُنا» و«الآن» يفسح المجال لتفسيرات عديدة: من مسار البوذية ذات الاعتدال، إلى الشعور باللذة لدى الأبيقورية، إلى الصوفية والتركيز على الوجود الروحي. الموضوع الرابع والمميز هو الشك الخيامي، الذي يدرك أن الألغاز الرئيسية للحياة والأسئلة ذات الطابع النهائي غير قابلة للحل في نهاية المطاف. والحكيم ينبغي أن يتجاوز الإيمان والكفر، فليس هناك من سبب كافٍ لدعم أي منهما.

التركيز على الموت وبأن المرء يمكن أن يعيش في هُنا والآن، يتردد في فلسفة سقراط الذي يعتبر أن الفلسفة تحضير للموت. حقيقة الموت تجعل بعض الأسئلة الفلسفية غير ذات صلة بأحوال الإنسان، وتجعل الاستغراق فيها مسعى فكرياً غير مجد. قد لا يكون الموت نهاية قاطعة، ولكنه لغز، والخوض في الألغاز، يقول الخيام، مسعى غير مجدٍ، «لا أنت ولا أنا من يعرف الأسرار الإلهية». لذا أنظر حولك لترى أنك هنا، وقد أُلقيت في أرض لا تتمثل الحقائق فيها إلا في عملية التناسل والفساد فقط. لم يكن لنا خيار في المجيء إلى هذه الحياة، ولم نُسأل متى نود أن نغادر؛ وفي هذا «التكرار الأبدي نفسه»، كما يقول نيتشه، نحن عرضة لهجوم قوى الطبيعة التي لا ترحم، في حين تذهب صرخاتُنا لطلب النجدة دون جدوى.

والحتمية هي الموضوع السادس في الرباعيات. والخيام لا يؤمن بها، كما أنه لا يؤمن بسطوة الأقدار كما تُفهم عادة. بل هو يدرك أن هناك حتمية وجودية هي جزء لا يتجزأ من وجودنا ذاته. نحن هنا نعاني، وما من خيار، هذا هو الشرط الإنساني. نجد أنفسنا في خضم هذا المأزق الغريب. الحكيم وحده، بـ»نبيذ الحكمة»، من يستطيع لعبة الوجود الشطرنجية هذه، دون أن يأخذها على محمل الجد.

هذا ليس بحراناً مع فلسفة «كانتية» أو «رشدية»، بل هو بحران شعري تحققه القصيدة المفكرة، التي تظمأ لها قصيدتنا العربية.