أعلن ملك السويد، غوستاف الخامس، سليل عائلة برنادوت، افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الخامسة (1912) في استوكهولم أمام نحو 30 ألف متفرج تابعوا العرض الافتتاحي ومرور بعثات 28 دولة، ممثلة بـ 2407 رياضيين، بينهم 47 امرأة، وهو رقم قياسي.

وللمرة الأولى جمعت الدورة وفودا من القارات الخمس، ومن المشاركين الجدد: مصر ولوكسمبورغ والبرتغال وصربيا واليابان. وكان الحشد الأكبر من روسيا والولايات المتحدة وفرنسا. اما اليابان، فمثلها لاعب واحد حمل في الافتتاح علم "الإمبراطورية".

Ad

ولاستضافة الألعاب، قامت استوكهولم بتحسين الملعب الملكي وتأهيله، ورافقت المنافسات التي استمرت إلى 22 يوليو، وأجريت بعيدا من الانشغالات في المعارض التجارية وأنشطتها، مباريات فنية تمثلت بمعارض صور ولوحات ومنحوتات، وعزف، وإلقاء الشعر، فكان مزجا لتنافس العضلات والأفكار والروح والخيال على غرار الألعاب القديمة.

وفي الميدان، تبارى المشاركون في 14 لعبة ضمن 98 مسابقة وهي: المصارعة والدراجات وكرة الماء والجمباز والتجديف والفروسية والسباحة والغطس وألعاب القوى والمسابقتان الخماسية والعشارية (كانتا منفصلتين عن ألعاب القوى) والرماية وكرة المضرب والسلاح واليخوت وكرة القدم.

وتصدرت الولايات المتحدة ترتيب الميداليات برصيد 25 ذهبية، تلتها السويد (24)، ثم بريطانيا (10 ذهبيات).

وحملت الألعاب الخامسة الشهرة لأسماء جديدة أمثال العدَّائين الأميركيين رالف غريغ الفائز في سباقي 100 و200 م، وتشارلز ريدباث (400 م)، وجيمس ميريديث (800 م)، ومواطنهم القادم من هاواي ديوك كاهانموكو، الذي ابتكر أسلوبا جديدا في السباحة الحرة، إذ وصف انه يعوم وكأنه يحبو فوق الماء، وسجل في سباق 100م، 1.4.3 دقيقة، فأحرز الميدالية الذهبية، وتسيَّد بعدها منافسات الحوض لمدة عشرة أعوام.

وفي تلك الفترة، كان عدَّاء المسافات المتوسطة والطويلة الفرنسي جان بوان، ابن الرابعة والعشرين، حديث القارة الأوروبية. فهو يحمل الرقم القياسي العالمي لسباق 10 آلاف متر (30.58 دقيقة). واستعدادا لقطف الذهب الأولمبي، قصد السويد قبل شهر من موعد الألعاب، ودأب على اجراء تدريباته في غاباتها، منفذا نظريات النقيب هيبرت المستندة إلى تعزيز اللياقة البدنية والبناء العضلي، فكان يسير مسافات في الغابات يحمل جذوع الأشجار بمعاونة مدربه، فضلا عن مزاولة التمارين السويدية والمصارعة اليونانية-الرومانية، وفضل الإقامة بهدوء في شقة خاصة بعيدا من أفراد بعثة بلاده.

تحطيم الرقم العالمي

وقبل أيام من الألعاب، تعززت حظوظ بوان، من خلال تحطيمه الرقم العالمي لسباق 5 آلاف متر (15.5 دقيقة) في لقاء استوكهولم، لكن النتيجة في "ساعة الحقيقة" اختلفت، إذ فاجأ بطل "اسكندينافيا" الفنلندي هانيس كوليهماينن الجميع، وتحديدا بوان، وخطف الفوز، بعدما تجاوزه بفارق متر واحد فقط.

فاز كوليهماينن (22 عاما) في سباق 5 آلاف م، الذي اعتبر من ابرز اللحظات التي عاشتها الألعاب الخامسة، وتقدم على منافسه في الأمتار الـ 60 الأخيرة، بعدما أحسن التصرف، فوفر جهوده وخزن طاقته للمرحلة الحاسمة.

ولم يكتفِ كوليهماينن النباتي، الذي شارك في سباق للماراثون في سن السابعة عشرة، بميدالية واحدة، إذ نال ذهبيتي سباقي 10 آلاف متر والضاحية، فضلا عن فضية البدل في 3 آلاف متر للضاحية (كل عدَّاء يجتاز مسافة 1000 م)، علما بأن سباقي 5 و10 آلاف متر أدرجا عامذاك للمرة الأولى في الألعاب الأولمبية.

وفي الوثب العالي من دون تحفز، فاز الأميركي ادامس (1.63 م)، وفاجأ الجنوب إفريقي رودولف لويس الفرنسيين في سباق الدراجات ولمسافة 300 كلم، فحلَّق بعيدا في المقدمة (10.49.42 ساعات)، وعاد لقب الماراثون لمواطن كينيت ماك آرثر، الذي سجل رقما أولمبيا جديدا (2.54.36 س).

واحتاط السويديون لأي مفاجآت في سباق الماراثون، لئلا يقعوا في خضم أزمة، على غرار ما حصل مع الإيطالي دوراندو بييتري في دورة لندن 1908، فطلبوا من كل مشارك شهادة طبية، لكن مع حلول موعد السباق ارتفعت الحرارة بدرجة كبيرة في هذه المنطقة الشمالية، وبلغت مستويات استوائية عالية، وكانت النتيجة تعرض البرتغالي فرانشيسكو لازارو (21 عاما) إلى ضربة شمس قاتلة، وهي حادثة الوفاة الأولى من نوعها في تاريخ الألعاب.

تعثر جيليس

وفي حادثة ثانية، تعثر رامي المطرقة الكندي جيليس وهو يرمي الثقل، فوقع على قدمه وكسرها.

وثأرت شرطة العاصمة السويدية للأميركيين في مسابقة شد الحبل، وانتزعت الميدالية الذهبية من حملتها شرطة لندن، الذي فاز فريقها على الأميركيين في الدورة الماضية.

وعلى غرار السيطرة الأميركية في ألعاب القوى، تفوق السويديون، وفي مقدمهم أهلغرين، على منافسيهم جميعا في المصارعة.

في استوكهولم يهبط الليل عند الثانية فجرا، ولا يكاد ينام الناس، خصوصا غير المعتادين على هذا النمط، حتى "تلامس" خيوط الصباح جفونهم، بعد نحو أربع ساعات، ما جعل كثرا من المشاركين غير مستعدين بدنيا.

25 دولاراً قضت على شهرة الهرقل ثورب
لا يقارن أي إنجاز في دورة استوكهولم عام 1912 مع قصة الأميركي جيم ثورب، الفائز بمسابقتي الخماسية والعشارية، القصة التي أرخت تداعياتها وتبعاتها على الألعاب، ولا تزال.

إنها "الدراما" التي اعقبت الانتصار الاستثنائي، ولا تزال الحجارة القرميدية في جدران الاستاد الملكي واشجار اللبلاب التي تظللها تتذكره، وكلمات الملك غوستاف في يوم تتويج الفائزين التي وجهها اليه: "سيدي انت اعظم رياضي في العالم"، وهي محفورة على قبره، لكن يبدو ان مشكلة ثورب الاساسية مع الشهرة. وهي عدوته من دون شك، وجالبة الأذية له.

فبعد اشهر معدودة من "المجد الأولمبي"، أوقف ثورب، وجُرد من ذهبيته، بداعي الاحتراف، وبعدما ثبت انه تقاضى 25 دولارا ليلعب مع فريق بيسبول في كارولينا الشمالية، وربما شفافية هذا اللاعب كبَّدته ثمنا باهظا، لأن أبطالا كثرا، ومنهم أولمبيون، كانوا منخرطين في الفرق الأميركية المحترفة بأسماء مستعارة. ولدى التحقيق معه، أجاب ثورب ببساطة: "لم العب من أجل المال، قبلت المشاركة، لأني أحب اللعبة، ومنذ عامين تفرغت لأستعد للدورة الأولمبية، من أجل حصد الميدالية وتشريف وطني".

وأعيد الاعتبار إلى ثورب رسميا في 23 اكتوبر 1982، وقدم رئيس اللجنة الأولمبية الدولية، آنذاك، الاسباني خوان انطونيو سامارانش الميداليتين لأولاده في 18 يناير 1983، ثم كرم على هامش دورة لوس انجلس عام 1984، وصادف ذلك بعد 31 عاما على وفاته المأساوية بنوبة قلبية (28 مارس 1953).