أمضى الاقتصادي جورج أكرلوف معظم فترة حياته المهنية وهو يفكر في كيفية تأثير الغش والخداع على الأسواق، وتمحورت نظرته الثاقبة التي أكسبته جائزة نوبل في الاقتصاد في سنة 2001 حول حقيقة تتمثل في أن اختلاف المعلومات لدى المشترين والبائعين والافتقار الى الثقة يمكن ان يفضيا الى انهيار الأسواق، ومن هذا المنطلق يتوخى الكل الحذر ويتصرف بعقلانية تامة، ولكن أكرلوف يتقدم خطوة الى الأمام في هذا المسار ليقول إن معظم الاقتصاد الفعلي في عالم الواقع ينطوي على غش وخداع.

قد لا يمثل ذلك صدمة بالنسبة الى العديد من الناس، ولكنه يقارب الهرطقة بالنسبة الى الاقتصاديين الذين يقولون إن ذلك سوف يخرج المخادعين من السوق بحكم سمعتهم السيئة، وذلك افتراض كبير وربما يبدو أقرب الى تفكير غير الاقتصاديين، ولكنك اذا نظرت الى النماذج الاقتصادية فسترى أن قلة منها تشمل حالات خداع ناجحة، ثم إن الاقتصاد الحديث يعتمد بشدة على افتراض العقلانية بحيث لا يترك مجالاً واسعاً للغش والخداع.

Ad

ويفاقم هذا الوضع من صعوبة قيام خبراء الاقتصاد بتحليل الدور الذي لعبه الاحتيال في الأزمة المالية العالمية في سنة 2008 والفقاعة السكانية التي أفضت الى تلك الأزمة. يذكر أن العديد من مشتري المنازل كذبوا بشأن دخلهم من أجل الحصول على رهونات عقارية كما أن الكثير من البنوك ضللت المستثمرين في ما يتعلق بسلامة المنتجات المالية التي طرحتها تلك البنوك وكانت مدعومة برهن عقاري.

الاحتيال الواضح يفترض أن يعالج عبر النظام القضائي، ولكن ماذا عن النوعية الأكثر دهاء وبراعة في ذلك العمل؟ ويعتقد العديد من الناس أن شريحة واسعة من الشخصيات العاملة في الصناعة المالية في الولايات المتحدة تحقق الربح والمال لا عن طريق تخصيص رأسمال من أجل الاستخدام في عمليات منتجة، أو عبر مساعدة الناس على تفادي المجازفة بل من خلال دفع الأفراد العاديين والشركات والحكومات المحلية الى اتخاذ قرارات سيئة وخاطئة.

وحتى من دون خداع صارخ قد تستخدم الشركات المالية معلوماتها الخاصة وأموالها الوفيرة من أجل خلق منتجات معقدة تفضي بشكل طبيعي الى اغراء الآخرين لاتخاذ قرارات سيئة، وهذا النوع من العمل قد لا يكون أخلاقياً، ولكنه قانوني بصورة تامة، والسؤال هو ما مدى اتساع وتأثير مثل هذا الاجراء؟

وقد تضمنت دراسة حديثة أعدها الاقتصاديون أندرا غنت ووالتر توروس وروزن فالكانوف نظرة الى الأسهم المعززة برهن عقاري والتي لعبت دوراً بارزاً في الأزمة المالية العالمية، وحاول هذا الفريق قياس مدى تعقيدات المنتجات المتعددة، وذلك من خلال عدد الصفحات في المنشورات الدعائية وفقرات التكافل والضمان.

وسمح ذلك للباحثين بمعرفة ما اذا كانت المنتجات الأكثر تعقيداً حققت أداء أفضل أم أسوأ خلال السنوات التي سبقت حدوث الأزمة المالية العالمية، وعبر استعراض الأسهم المدعومة برهن عقاري والتي تم اصدارها في الفترة ما بين سنتي 1999 و2007 تمكن هذا الفريق من معرفة المنتجات التي تخلفت عن الأداء.

ثم تبين أن التعقيدات كانت اشارة سيئة، وتعرضت الصفقات الأكثر تعقيداً الى معدلات تخلف أعلى وإلى حبس الرهن، كما تبين أن شركات التصنيف الائتماني كانت تعطي درجات أعلى للمنتجات الأكثر تعقيداً.

ومن هذا المنطلق يبدو أن الشكوك كانت حقيقية وأن شريحة من نظامنا المالي تعمل من خلال الاحتيال، ولكن ماذا عن السمعة؟ أليس من المحتمل أن تفقد الشركات التي تعمد الى الخداع سمعتها وأن يتم استبدالها باخرى أكثر نزاهة واستقامة؟ نحن نأمل ذلك. وربما تكون بنوك أميركا الكبيرة كسبت الكثير في حقبة الـ 2000 ولكن في غضون ذلك يتعين علينا أن نفكر في الطريقة التي تجنبنا التعرض الى الخداع في المرة التالية التي تطرح علينا فيها منتجات معقدة الى درجة نعجز عن فهمها حقاً.