سقوط الدولة

نشر في 17-07-2016
آخر تحديث 17-07-2016 | 00:08
المنظومة التي يتفيأ العالم في ظلها راهنا قد لحق بها البلى والقدم، حيث جرت هندسة معمارها بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن أن تصميمها كان محكوما بحقائق كانت آنذاك شاخصة على أرض الواقع، فاعتُمدت الأمة-الدولة شكلا للكيانات السياسية، وأسست الأمم المتحدة، وظهر النظام المالي الدولي، ونشأت المنظمات الإقليمية المحكومة سلفا بكيان الأمة_الدولة.
 منصور مبارك المطيري من يتابع مجريات الأحداث يشعر بنوع من عدم الاتساق في السياسات العالمية الكبرى، ويبصر اللاعبين الكبار يتعثرون في خطواتهم وكأنهم يطرقون دربا غير مستوية لم يألفوها بعد، وهذا في قسط كبير منه يعود إلى حدوث تحولات كبرى على مستوى المنظومة الكونية التي نشأت في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ويشير بشكل واضح إلى تفسخها واندثارها، ذاك أن أحداثا جساما كنهاية الحرب الباردة وسقوط حائط برلين وانفجار الجسم الضخم للاتحاد السوفياتي السابق لم تكن سوى علامات على احتضار تلك المنظومة، وهي أحداث في جماعها شكلت تلك التحولات الرئيسة وصدرت عنها تأثيرات متموجة.

تستحضر هذه الحقائق في ظل تشكيك مستمر في كفاءة الطرائق التي تعمل هذه المنظومة الكونية وفقا لها وفعاليتها، ولو انتبذنا جانبا ما يطلقه الحمقى الإقليميون الجدد حول تقاسم النفوذ الكوني، فإن المنظومة التي يتفيأ العالم في ظلها راهنا قد لحق بها البلى والقدم، حيث جرت هندسة معمارها بعد الحرب العالمية الثانية، فضلا عن أن تصميمها كان محكوما بحقائق كانت آنذاك شاخصة على أرض الواقع، من بينها على سبيل الحصر، اعتماد الأمة-الدولة شكلا للكيانات السياسية، وتأسيس الأمم المتحدة، وظهور النظام المالي الدولي، ونشأة المنظمات الإقليمية المحكومة سلفا بكيان الأمة_الدولة.

ولكن هذه الحقائق أصابها تحول كبير، وهو تحول صاحبه غياب الثقة بمداميك هذه المنظومة الكونية، فلم تعد هناك ثقة بالمنظمات الإقليمية والمؤسسات الدولية، على النحو الذي شكل فيه إرسال الأمم المتحدة واقيات ذكرية وحبوب منع حمل لمنطقة داريا المحاصرة حتى الموت طعنة نجلاء لمصداقية المنظمة! وبالطبع فإن ذلك سبقه انعدام الثقة بالحكومات الوطنية، الأمر الذي جعل الناس يتجهون إلى الوحدات التنظيمية الصغرى كالمناطقية والجهوية التي حين تكون معززة بالشبكات الاجتماعية التقليدية تغدو الأكثر قربا والتصاقا بالناس.

وغني عن القول أن تحولا كهذا يفتح ذراعي المجتمع للعنصرية والكراهية بأشد أشكالها انحطاطا، وقد باتت الآن سلوكا يوميا لم يقتصر على المواطنين بل يمارسه المسؤولون الحكوميون جهارا ويعدونه مصدر فخر لهم، على النحو الذي يتعامل به بعض الساسة اللبنانيين مع المهجرين السوريين والوساخات التي يطلقها بعض المسؤولين العراقيين تجاه آخرين من أبناء جلدتهم.

غير أن العرض الأشد التهابا في تفسخ المنظومة الكونية يتمثل بظهور التنظيمات المسلحة غير الحكومية وازدهارها ونموها، فليس هناك من يجادل بقوة حزب الله و"داعش" والحشد الشعبي وتأثيرها في مصاير مشرقنا البائس ووجهاته. وثمة عنصر مهم يقترن في ضوء ذلك بالممارسة السياسية نفسها، فالسياسة في الأساس هي مساومات وضغوط بين دولة وأخرى ترمي إلى التأثير بشكل فاعل في المناطق والأنماط التي يعيش فيها الناس حياتهم في سبيل تحقيق بعض المنافع، ولكن السياسة في ظل بروز التنظيمات المسلحة غير الحكومية وعلو كعبها إقليميا فقدت كل فاعليتها، وهذا أمر غير مستغرب مع سقوط الدولة بمعناها الكلاسيكي.

back to top