ديروط الشريف ونعمان عبدالحافظ (2-2)
![فوزية شويش السالم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1555928838345230500/1555928850000/1280x960.jpg)
طبعا اجتزائي للمشهد لا يفيه حقه، بسبب قصر المقال ومحدودية عدد كلماته، لكن كل قصة بحد ذاتها تصلح لتكون فيلما، بشرط أن يتناولها مخرج له رؤية سحرية تتوافق مع تركيبة القصة ومشاهدها.فمحمد مستجاب تختلط عنده الأحداث، وكل التفاصيل تتشابك مع بعضها في بانوراما رهيبة تتوالد فيها القصة القصيرة بعوالم بحجم رواية مكثفة، وكل قصة تأتي القارئ بحكاية لا تخطر على البال، بسبب رمزيتها السحرية، التي تموه الواقع بالمخفي من المعنى، مثل القصة التي بدأت برجل يفقد قدرته على الكلام بتحجر لسانه، ومن ثم يتوالى هذا الحدث على جميع سكان القرية، حتى يصيب الخرس ألسنتهم: "لتكتشف في آخر النهار أن الجملة التي وصلت إليها ليست الجملة المقصودة، كلام مبتور مفتت مهشم ممزق يتسرب من أفواه واسعة يطن داخلها لسان من اللحم الطري البارد الراقد وسط بحيرة لعاب". ويصيب القرية الذعر، بسبب كساد تجارتها المعتمدة على كلام اللسان، فهم: "يعتمدون أول ما يعتمدون على تلك العضلة الكنز، اللسان، بلسانهم يجاملون ويجادلون ويستدرجون ويقسمون بالحي القيوم والكتب المقدسة ويمدحون ويكذبون ويغتابون ويدفعون ويدافعون ويسامرون، لسان مرن متحرك يظل يلعب داخل الفم، ثم يفرز في الوقت المناسب الجملة المناسبة".ومن أقوى قصصه "الجبارنة" قصة عجيبة، فالجبارنة يوصيهم كبيرهم باقتناء الجمل وتكبر تجارتهم معه، ثم مع الوقت يباتون يشبهون الجمال، فيتخلون عنها، وبعدها يقتنون البغال ويتخلون عنها، بعد أن أصبحوا يشبهونها، وفي آخر القصة يوصيهم كبيرهم باقتناء الخنزير، وتنتهي القصة به لتترك للقارئ باب التخيل مفتوحا.وفي قصة "حافة النهار" مشاهدها مركبة مع الحركة الكونية، مثل الساعة اليومية للنهار، ولكل ما يتحرك فيه من حيوانات وإنسان رصدتها وقنصتها عين فنان مرهفة: "وخرجت أرانب يامنة أم محمود من جحورها، وانتشرت متوهجة العيون تتنسم الأعواد في التراب، وجست الحاجة شفاء مؤخرات فراخها لتطمئن على البيض ونادت ابنتها وسبتها، لتخاذلها في نقل الماء من الزير إلى الأباريق قبل أن يأتي الليل، واستطاع محمود عبدالجابر أن يشد وثاق جمله أمام الباب، بادئا في تضميخه بالزيت الأسود، كي يخفف عنه الجرب".وهكذا تستمر الأحداث وراء بعضها البعض مثل السلسلة، بحلقاتها المتشابكة، تمنحها اسمها، والكتابة عند محمد مستجاب تسير في شكل دائري، أحداثها تنتهي بإغلاقها عند نقطة تصاعدها الدرامي الأخير.اللغة الرائعة الآتية من روح ناسها وحياتهم وتراثهم مثل هذه الجملة: "انسحل السكون وتناثر".محمد مستجاب، الله يرحمه، اكتشاف عظيم عرفته متأخرا.