كتابات محمد مستجاب سبقت وقتها، فهذه القصص كُتبت في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وعالمنا العربي لا يستوعب الأعمال السابقة على معرفته وذائقته، وحتى واقعيتها السحرية جاءت قبل التعرف على كتابات بورخيس وماركيز وأعمال كتاب أميركا اللاتينية، التي هي منبع الواقعية السحرية.

وأظن أن الكاتب محمد مستجاب لم يعرفها أيضا خلال وقت كتابته لهذه المجموعة، لكن عينه الفنانة رأت في انفلات الواقع من تروس واقعيته ما هو سحري بتركيبته، وعلى هذا تولد الواقع بشكل لا يُصدق رغم تحققه، فمثلا في قصة "كوبري البغيلي"، التي يطارد فيها الضابط القاتل، الذي رمى جثة المقتول بالترعة، وأصرَّ على إخراج الجثة منها، رغم خوف الجميع من الغطس فيها، وعند رفضهم يُحضر غطاس لينتشل الجثة، وهنا يكتب مشهدا في غاية الروعة، فبعدما كانوا خائفين منها، يسقط واحد منهم بالترعة، ثم يلحقه الكثير بالقفز، لانتشال جثث وأوصال معارفهم، ففي بطنها يرقد كل المختفين، وكل غطسة تُخرج سرا مخفيا لتعلنه، حتى امتلأت الترعة بالناس: "واختلطت الجماهير برجال الشرطة بحقول القمح بمشاهد القبور، واعتدى شرطي على امرأة لاعنة، وطعن صبي رجلا تحت إبطه بمطواة دون سبب معلن، وسحب رجل امرأة من ساقها، قاصدا أن يلقيها بالماء، وعابث شاب فتاة من الخلف فصرخت، وظهر وسط الناس باعة الطعمية ومجهزو الشاي ومعدو المعسل، وحاول الضابط أن يجمع رجاله ليحافظوا على النشل غير أن أحدا لم يسمعه".

Ad

وينتهي المشهد الطويل السريالي بانهيار الكوبري: "وامتلأت مياهه بنبات القمح والهياج وأغصان الجميز والغطاسين والقلنسوات والأذرع والسيقان وخشب القارب وأعشاب بطن الكوبري، ثم بدأ رشاش الماء المتناثر من الأمواج العاتية يصطبغ بلون دموي يشبه لون الحكمة".

طبعا اجتزائي للمشهد لا يفيه حقه، بسبب قصر المقال ومحدودية عدد كلماته، لكن كل قصة بحد ذاتها تصلح لتكون فيلما، بشرط أن يتناولها مخرج له رؤية سحرية تتوافق مع تركيبة القصة ومشاهدها.

فمحمد مستجاب تختلط عنده الأحداث، وكل التفاصيل تتشابك مع بعضها في بانوراما رهيبة تتوالد فيها القصة القصيرة بعوالم بحجم رواية مكثفة، وكل قصة تأتي القارئ بحكاية لا تخطر على البال، بسبب رمزيتها السحرية، التي تموه الواقع بالمخفي من المعنى، مثل القصة التي بدأت برجل يفقد قدرته على الكلام بتحجر لسانه، ومن ثم يتوالى هذا الحدث على جميع سكان القرية، حتى يصيب الخرس ألسنتهم: "لتكتشف في آخر النهار أن الجملة التي وصلت إليها ليست الجملة المقصودة، كلام مبتور مفتت مهشم ممزق يتسرب من أفواه واسعة يطن داخلها لسان من اللحم الطري البارد الراقد وسط بحيرة لعاب".

ويصيب القرية الذعر، بسبب كساد تجارتها المعتمدة على كلام اللسان، فهم: "يعتمدون أول ما يعتمدون على تلك العضلة الكنز، اللسان، بلسانهم يجاملون ويجادلون ويستدرجون ويقسمون بالحي القيوم والكتب المقدسة ويمدحون ويكذبون ويغتابون ويدفعون ويدافعون ويسامرون، لسان مرن متحرك يظل يلعب داخل الفم، ثم يفرز في الوقت المناسب الجملة المناسبة".

ومن أقوى قصصه "الجبارنة" قصة عجيبة، فالجبارنة يوصيهم كبيرهم باقتناء الجمل وتكبر تجارتهم معه، ثم مع الوقت يباتون يشبهون الجمال، فيتخلون عنها، وبعدها يقتنون البغال ويتخلون عنها، بعد أن أصبحوا يشبهونها، وفي آخر القصة يوصيهم كبيرهم باقتناء الخنزير، وتنتهي القصة به لتترك للقارئ باب التخيل مفتوحا.

وفي قصة "حافة النهار" مشاهدها مركبة مع الحركة الكونية، مثل الساعة اليومية للنهار، ولكل ما يتحرك فيه من حيوانات وإنسان رصدتها وقنصتها عين فنان مرهفة: "وخرجت أرانب يامنة أم محمود من جحورها، وانتشرت متوهجة العيون تتنسم الأعواد في التراب، وجست الحاجة شفاء مؤخرات فراخها لتطمئن على البيض ونادت ابنتها وسبتها، لتخاذلها في نقل الماء من الزير إلى الأباريق قبل أن يأتي الليل، واستطاع محمود عبدالجابر أن يشد وثاق جمله أمام الباب، بادئا في تضميخه بالزيت الأسود، كي يخفف عنه الجرب".

وهكذا تستمر الأحداث وراء بعضها البعض مثل السلسلة، بحلقاتها المتشابكة، تمنحها اسمها، والكتابة عند محمد مستجاب تسير في شكل دائري، أحداثها تنتهي بإغلاقها عند نقطة تصاعدها الدرامي الأخير.

اللغة الرائعة الآتية من روح ناسها وحياتهم وتراثهم مثل هذه الجملة: "انسحل السكون وتناثر".

محمد مستجاب، الله يرحمه، اكتشاف عظيم عرفته متأخرا.