تبيّن أن القدرة على ابتكار علم الهندسة أو إثبات نظرية فيثاغورس كانت مفيدة طوال آلاف السنين الماضية. لكن يصعب أن نتخيّل أنّ الدماغ القادر على تحقيق تلك الإنجازات كان مضطراً إلى الصمود في سهول شرق إفريقيا في حقبة ما قبل التاريخ نظراً إلى الثمن الباهظ الذي اضطر البشر إلى دفعه. تمتص أدمغة البشر الضخمة والمتعطّشة للطاقة نحو ربع إمدادات الأوكسجين التي يتلقاها الجسم.

تتعدد النظريات التي تفسّر هذا اللغز. ربما ينجم الذكاء عن الانتقاء الجنسي. بعبارة أخرى، قد يكون الذكاء شكلاً من الزخرفة مثل ذيل الطاووس، لكنه يثبت في الوقت نفسه مدى سلامة الشخص الذي يحمله نظراً إلى قيمته الفردية. كانت البشرية محظوظة بكل بساطة لأن تلك الأدمغة الكبيرة والجذابة ساهمت في إتمام إنجازات أخرى كثيرة، بدءاً من ابتكار الزراعة وصولاً إلى بناء محركات الاحتراق الداخلي. تتعلق فكرة أخرى بنشوء الذكاء البشري انطلاقاً من المتطلبات العقلية المرتبطة بالعيش ضمن جماعاتٍ يكون أفرادها حلفاء حيناً وخصوماً أحياناً.

Ad

ميزة بشرية

لكن ابتكر الباحثون في جامعة "روشتسر” في نيويورك فكرة أخرى الآن. في "وقائع الأكاديمية الوطنية للعلوم”، يفترض ستيفن بيانتادوسي وسيليستي كيد أنّ البشر ربما أصبحوا أذكياء بفضل ميزة أخرى تبدو غريبة من الناحية التطورية: يكون أطفالهم عاجزين جداً!

مقارنةً بحيوانات أخرى يستطيع صغارها الوقوف والتحرك بعد الولادة بدقائق، يحتاج صغار البشر إلى سنة كاملة كي يتعلّموا المشي ثم يحتاجون إلى مراقبة دائمة خلال السنوات اللاحقة. يُقال إن ذلك العجز يرتبط بالذكاء أو بحجم الدماغ على الأقل. لإبقاء الرؤوس صغيرة بما يكفي وتسهيل الولادة، يجب أن يولد أبناء البشر في مرحلة أبكر من نمو الحيوانات الأخرى. لكن تساءل بيانتادوسي وكيد اللذان درسا نمو الأطفال عن سبب الذكاء ونتيجته أيضاً.

بحسب رأيهما، يحتاج كل طفل عاجز إلى والدين ذكيين للاعتناء به. لكن للحصول على أبوين لهما دماغ كبير، يجب أن يكون الطفل عاجزاً ورأسه كبيراً. هكذا تنشأ سلسلة من العمليات حيث يفرض ذكاء الوالدين أن يكون الصغار عاجزين إلى أقصى درجة، ما يعني أنهم يحتاجون إلى آباء لامعين كي يتجاوزوا مرحلة الطفولة بكل أمان.

إنها فكرة متقدّمة. تفسّر طبيعة هذه العملية المبنية على التعزيز الذاتي ما يجعل الذكاء متطوراً بشكل مفرط لدى البشر، حتى مقارنةً بحيوانات الشمبانزي. كذلك تقدّم إجابة عن لغز تطوري آخر، أي السبب الأصلي لتطوّر الذكاء عالي المستوى لدى الرئيسيات، فرع جديد من الثدييات يُعتبر حديث العهد نسبياً. لا تضطر الحيوانات التي تبيض بدل اختبار تجربة الحمل إلى الاختيار بين حجم الرأس عند الولادة وكفاءة الصغار التي تحرّك هذه العملية كلها.

اختبر بيانتادوسي وكيد نظريتهما عبر اللجوء في البداية إلى نموذج محوسب للتطور، فأكّد صوابية تلك الفكرة، في المبدأ على الأقل، ثم بدآ البحث عن أدلة لدعم النظرية على أرض الواقع. لتحقيق هذا الهدف، جمعا بيانات من 23 فصيلة مختلفة من الرئيسيات، بدءاً من الشمبانزي والغوريلا وصولاً إلى ليمور الفأر في مدغشقر، نوع صغير من الرئيسيات يقلّ طوله عن 30 سنتم.

قارن العلماء بين سن الفطام لدى صغار الحيوانات (إنه مؤشر فاعل على مستوى كفاءة الصغار) بعلاماتهم في اختبار نموذجي عن ذكاء الرئيسيات، فوجدوا رابطاً قوياً: بالنسبة إلى جميع الحيوانات التي خضعت للاختبار، كان سن الفطام ينذر بـ78 % من معدل الذكاء النهائي. بقي ذلك الرابط متماسكاً رغم مراقبة عوامل أخرى مثل متوسط وزن الصغار مقارنةً بالراشدين أو حجم الدماغ كنسبة مئوية من كتلة الجسم الإجمالية.

يشير الباحثان إلى مجموعات أخرى من البيانات التي تدعم استنتاجاتهما: شملت إحدى الدراسات التي نُشرت في عام 2008 نساءً صربيات واكتشفت أن الأطفال الذين يولدون من أمهات يسجّلن معدلاً مرتفعاً من الذكاء يكونون أكثر ميلاً إلى الصمود من أولئك الذين يولدون من نساء قليلات الذكاء. تدعم هذه النتيجة الفكرة القائلة إن الاعتناء بأطفال البشر يكون متطلباً من الناحية المعرفية. قد تبدو نظرية بيانتادوسي وكيد مثيرة للاهتمام، لكنهما يعترفان بعدم وجود إثبات قاطع عليها.

إنه مصير باحثين كثيرين يدرسون التطور البشري للأسف. ستكون أي سلسلة من التفاعلات بطيئة (بحسب اعتراف البشر على الأقل) ويقع معظمها في الماضي البعيد. يبرز بعض الثغرات في النظرية المطروحة أيضاً. حتى لو نجحت تلك العملية في تعزيز مستوى الذكاء بنسبة هائلة، لا بد من وجود محرّك لإطلاقها في المرحلة الأولى. ربما تبرز الحاجة إلى عامل آخر لإطلاق العملية، مثل الانتقاء الجنسي أو الحاجة إلى بيئة معقدة أو خليط من الاثنين. تبدو فكرة بيانتادوسي وكيد إضافة منطقية إلى لائحة التفسيرات. لكن ما لم يستطع الذكاء البشري بناء آلة زمنية، من المستبعد أن يتوصّل أحد إلى نتيجة مؤكدة يوماً.