"أكاد من المحبة أسقط"... لماذا هذا العنوان في زمن باتت المحبة فيه عملة نادرة؟

هو ليس عنوانا فحسب، لكنه حقيقة. وهذه الجملة «أكاد من المحبة أسقط» قد وردت في إحدى قصائدي وأعجبتني، فاخترتها عنوانا للقصيدة نفسها، ثم عنوانا للديوان. لقد وردت حين شعرت صادقة بأن المحبة التي أحملها في نفسي حمل متعب وثقيل، لكنني، رغم ذلك، لا أتمنى أن أتركه، فالمحبة أساس الإبداع، وأساس القداسة، بل القداسة كلها.

Ad

قلت في النص المذكور الذي كتبته ذات حزن:

«مَنْ قالَ إنّي اعتدْتُها النّكَباتِ والنّكَساتِ؟

لا، لا تَسْهُلُ الأوجاعُ بالتّكرارِ

بل تزدادُ إيلاماً!

أكادُ من المحبّةِ أسقُطُ».

ولئن كانت المحبة قد ندرت ربما، فإن المؤمن بها لا يتركها، ألم يقل كبيرنا جبران خليل جبران: «إذا المحبة خاطبتكم فصدقوها»؟ وقديما قيل: «ههنا من شرب كأسا من المحبة لم يظمأ بعدها».

يضم الكتاب قصائد في الشعر العمودي والتفعيلة، هل تعتبرين أن شعر التفعيلة ما زال يجد مكانته في عصر الفوضى الكتابية؟

الشعر الموزون هو الأصل. لقد كان العرب يكتبون الشعر العمودي. وبفعل الحداثة سمح الشعراء لأنفسهم باعتماد التفعيلة بدلا من البحر، وقد كتبت القصيدة العمودية كما كتبت قصيدة التفعيلة. أما التفلت من كل قاعدةٍ ومن كل ضابط في الإيقاع فهو قد يدخلنا في «الفوضى الكتابية» كما أحسنتم التسمية. ثم إنني أعتقد أن الإيقاع المنضبط في الشعر هو أقرب إلى القلوب الشاعرة، وأقرب تاليا إلى قلوب الجمهور.

نعم، إن هذا العصر هو عصر الفوضى على كل صعيد، وليس في الأدب فحسب، لكن رسالتنا نحن المثقفين هي ضبط الفوضى لا مجاراتها. أتفاجأ اليوم حين أقرأ نصا سرديا يجب توصيفه بأنه قصة قصيرة، فيكتب أعلاه أنه شعر! أإلى هذا الحد بلغت بنا الفوضى؟ سؤال برسم الكتاب والنقاد والقراء.

ورب قائل: إن الوزن يقيد الفكرة. جوابي على ذلك أن بعض المفردات في اللغة العربية يعادلها أربعون مرادفا. وإنه غير قليل. أما كبار الشعراء الذين توصلوا إلى ابتكار إيقاعاتهم الإبداعية الخاصة فقد مروا أولا بالأوزان والتفاعيل والبحور، لقد تعمدوا بنار الأصول قبل أن يسمحوا لأنفسهم بالتجاوز. وهكذا في اللغة. فعندما يريد أحدهم أن يقترح تعديلا معينا تحت شعار تطوير اللغة، عليه أن يكون قد ختم القواعد أولا، عليه أن يكون لغويا كبيرا حتى يسمح لنفسه بادعاء التطوير، لا أن يكون جاهلا القواعد وعاجزا عنها.

رومانسية وبوح

تنتهجين نهج الرومنسية والعاطفة في زمن قلت فيه العاطفة وازدادت المادية، هل تهربين من هذا الزمن إلى الرومانسية أو هي أسلوب تعبير لا علاقة له بما حولنا؟

لا يستطيع الإنسان الانعزال عن محيطه. وإذا أراد الانعزال فهذا الموقف بحد ذاته هو نتيجة وتأثر. فكيف بالشاعر حين يكون مرهفا؟ فهو أشد تأثرا من الآخرين بلا شك.

أما أنا فلست أعرف إن كانت رومنسيتي هروبا إلى الحلم، أم طبعا لا أستطيع تغييره، لكنها بكل تأكيدٍ ليست أسلوب تعبير، فالرومانسية عاطفية روحية لا شكلية. وللحقيقة إني أتساءل دائما هل هذه الرومانسية مولودة معي أم ناتجة أم مولودة تعاظمت بالناتجة، لكن ما أعرفه هو أنني إذا ابتعدت عن رومانسيتي أحزن. لذلك قلت في إحدى قصائدي:

« وأحزنُ أنْ قسَوْتُ..."

وقلت في قصيدةٍ أخرى، تأكيدا لأنني شديدة التأثر بما حولي، وشديدة التأثر أكثر بعدم تأثره لحالي. قلت:

«وَحدي أنا والكونُ يخنُقُني

وشَوقي يَستَميتُ إلى السّلامِ،

إلى هُناكْ!

أليومَ أنسى أن أصلِّـي،

أنّني كنْتُ الجَميلهْ

أنّني مثلُ الخَميلهْ

وَنَسيتُ أنِّي كنْتُ كالشَّلاّلِ

مُحتفِلاً يَسيلْ

وإذا مَشى، فـلَهُ هَديلْ!

وَحدي أنا

لا يَسمعونَ أنينَ قلبي

يَتعبونَ من السَّماع

مِن كلِّ ما خَطَّ اليَراعْ!

دَوْماً يُحِبّونَ الفرَحْ

أنا كنْتُ أحترِفُ الفرَحْ

لكنّني قد كنْتُ أحزنُ

حينَ أسمَعُ عن بُكاءْ".

قصائد الديوان بوح ينبض بالحزن، بالدهشة، بالوجع، بالأحلام، بالحياة بحلوها ومرها... هل تختصرين فيه تجارب شخصية أم تجارب مجتمع ووطن؟

تختلف الحالة فيختلف الموضوع. فحين أكتب قصيدة حب تكون التجربة الشخصية هي الغالبة. وحين أكتب للوطن يكون هو المهيمن في قلبي ساعة الكتابة. وحين أكتب الحزن أو الفرح أو الخواطر والوجدانيات، تتعانق المشاعر وتتداخل وتتكاثف. لكنني أؤكد أن مقاربة المواضيع كافة، والحالات كافة، لا تختلف. فالمتطرف في الحب متطرف في الوطنية، والمبدئي في العشق مبدئي في الأخلاق.

تحاكي القصائد وجع الواقع لكنها تسمو إلى أبعد من العقل، فهل الصورة الشعرية عندك لا تكتمل إلا بمحاكاة الروح؟

يسرى البيطار تؤمن، وهذا تصريح للتاريخ، بأن العاطفة تصنع العقل. العاطفة هي التي تسمو بالتجربة إلى ما فوق العقل وما فوق الإدراك. نعم، العاطفة تحاكي الروح، رافعة معها العقل والإدراك. لذلك لم يبدع كبير إلا من العاطفة، وكلما تعمقت العاطفة ارتفع بها العقل، والروح سمت، وأشرق الإبداع. لذلك قلت في إحدى قصائدي:

« فأجملُ الشِّعرِ لا شكلٌ ولا صُوَرٌ

بل أجملُ الشّعرِ قلبي حينَ يحترقُ».

بين ديوانك «عطر من الشوق» (2014) وديوانك الجديد قاسم مشترك هو صرخة في وجه الموت واحتفال بالحياة، فهل يحمل الشعر عندك نوعا من التأملات في عمق دورة الحياة والموت، أي يمزج بين الشعر والفلسفة؟

نعم، قد يجد القارئ في شعري أفكارا فلسفية، وهي كما أسلفت تنبع من التجربة العاطفية، لذلك فهي جزء من الشعر عندي لا يجزأ. وأورد مثلا على ذلك مطلع قصيدة:

«لو كنْتُ ماءً لَما أفنانيَ المللُ

وكانَ وجهُكَ بي يصفو ويغتسلُ

وكنْتُ أجلسُ في كوبٍ على مهَلٍ

وأنتَ تكتبُ شِعراً، والهَنا مَهَلُ»...

من الواضح أن الصورة هنا، والأفكار الفلسفية، مولودة من حالةٍ عاطفيةٍ هي الشوق إلى الحبيب وتمني قربه، وكذلك من الشعور بالتعب من عصر السرعة حين أقول: «والهنا مهل».

وأقدم مثلا آخر:

« مِن أينَ لِي أن أقتلَ الحبَّ المزيَّنَ بالشّبابْ؟

مِن جرحِ أوردةِ الضّحايا

يخرجُ السَّيفُ المبشِّرُ بالعذابْ»...

واضح أنني أسأل نفسي، لأنني أتصور أن الحبيب يسألني: لماذا قتلت الحب؟ هو الشعور بالذنب والندم، وبالأسف على الحب المقتول على يدي، فأقول:

«مِن جرحِ أوردةِ الضّحايا

يخرجُ السَّيفُ المبشِّرُ بالعذابْ»...

ربما لأعذر نفسي أمام الحبيب، وربما لأريح ضميري، ولكن العذر حقيقة وفلسفة، فما يؤذي الضحايا سوى ضحايا.

إلى جانب الشعر لك دراسات في النقد الأدبي وفي الألسنية، إلى أي مدى يساهم تخصصك في تعميق تجربتك الشعرية؟

اللغة هي أداة التفكير في الشعر وسواه. وأعتقد أن اللغة ليست وسيلة للتعبير عن الأفكار فحسب، لكنها تولدها أيضا. وانطلاقا من هذه القاعدة فكلما كانت اللغة متينة كان أساس الشعر أقوى بلا شك. أما النقد الأدبي فيأتي دوره بعد الكتابة، حيث يستطيع الشاعر الناقد أن يحسن ما يمكن تحسينه، وأن يعدل ما يجب تعديله، لعلمه بالقواعد والأصول، وبذلك يتفادى كثيرا من نقد المتخصصين الآخرين.

عنوان أطروحتك في الدكتوراه «روابط التعارض والسبب والاستنتاج في النصين السياسي والأدبي، دراسة وصفية تحليلية ومقارنة، نماذج من محمد حسنين هيكل وغسان تويني وإبراهيم المازني وأمين نخلة». لماذا اخترت هذا الموضوع الشائك، وهل بسبب تداخل السياسة في كل شيء حتى في الشعر والأدب؟

لا. لقد اخترت هذا الموضوع لأنه يواكب التوجهات الحديثة في علوم اللغة واللسانيات، التي تركز على ترابط النص ومنطقه في التماسك. وأردت أن تكون دراستي للترابط تطبيقية لا نظرية، لأن غالبية الباحثين من العرب، وحتى في اللغات الأجنبية، يتناولون في أبحاثهم ترابط النص من خلال نظريات، وأعتقد أن التطبيق في الأبحاث اللغوية أجدى من التنظير. ولأن الترابط المنطقي يكون في النثر لا في الشعر، فقد اخترت البحث تطبيقا على نصوصٍ نثرية. ولكي يكون البحث شاملا قدر الاستطاعة، اخترت نصوصا من المقالة الأدبية، والرواية، ونصوصا في المقالة السياسية، وفي التأريخ.

بين الشعر والبحث
قالت البيطار إن: «البحث قرار، والشعر أخضع له. فإذا وجدت قضية تحتاج بحثا وأحببت موضوع البحث أقرر أن أنجزه. أما الشعر فأمر آخر، لأن الحالة العاطفية الشعرية تفرض نفسها، وأحيانا تكتب نفسها. قديما قيل: إن القصيدة تأتي مرتدية ثوبها الكامل».

وأضافت: «أعمل على بعض الأبحاث اللغوية، حين تراودني قصيدة أكتبها، لكنني أتريث في نشر الشعر، فلا أنشر إلا ما يقنعني بأنه يستحق الانتشار. البحث مسؤولية والشعر مسؤولية، لكن الشعر لا يأتي ساعة نشاء، وكثيرا ما أمزق أوراقي بعد الكتابة، فقد آليت على نفسي ألا أنشر إلا المدهش، وما يرفع اسمي واسم وطني لبنان، فلبنان وطن الشعر والأدب والحرية والجمال. وإن لحرية التعبير وحرية النشر في لبنان فضلا كبيرا على كل إبداع».