لدى المواطن العربي، أو على الأقل أبناء جيلي، تجربة مريرة مع الإعلام، وإعلام أوقات الحروب والأزمات تحديداً. فأبناء الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، تابعوا حرب 67 بين جيوش الدول العربية من جهة، وجيش الكيان الإسرائيلي من جهة أخرى.

ولقد أججت حماسة قلوبهم تلك الخطب الرنانة التي كان يصدح بها مذيع "صوت العرب" أحمد سعيد، مشيراً إلى انتصار ساحق لمصر، ومؤكداً زعمه بإسقاط عشرات الطائرات الإسرائيلية، وأن الجيوش العربية على وشك سحق الجيش الإسرائيلي وتحقيق النصر المؤزر. لكن، الحقيقة ما لبثت أن كشفت عن وجهها، وأن هزيمة مخزية ومدوية لحقت بجيوش العرب، وثبتت وجود الدولة اليهودية، وشكلت جزءاً كبيراً من مفاصل التاريخ الحديث لمجمل الشعوب العربية.

Ad

تداعى لي المشهد الإعلامي العربي البائس، وأنا أتابع حدثين عالميين لفتا أنظار العالم خلال الأسبوع الماضي، وهما؛ الهجوم الإرهابي في مدينة نيس الفرنسية، الذي قاده سائق الشاحنة الفرنسي من أصول تونسية محمد لحويج بوهلال، وأدى إلى مقتل 84 شخصاً وجرح قرابة المئة، وكذلك محاولة الانقلاب الفاشلة التي نفذها فصيل في الجيش التركي، وتبخرت خلال ساعات.

كلا الحدثين ما كان لهما أن يصلا إلى ضمائر وعقول وتفاعل ملايين البشر لولا وسائل الميديا، وعلى وجه الخصوص شبكات التواصل الاجتماعي.

اللقطة الأهم التي عاشها العالم لتعبِّر عن وحشية هجوم نيس كانت لقطة خاطفة صورها تلفون نقال شخصي، لتغدو رمزاً للعملية، ولتُطلع العالم أجمع على بشاعة الهجوم ووحشيته، وتنقل لشعوب الأرض بالصوت والصورة ومن مكان المأساة حقيقة ما حدث، وبالمقابل تحوز تعاطفهم وإقناعهم بهول ما حدث، وتقدم مساعدة عظيمة للحكومة الفرنسية لمزيد من التعاطف الإنساني مع مصابها، وإعطائها كل المسوغات لاتخاذ جميع الإجراءات الكفيلة بالتصدي للعنف الأعمى، والحد من السلوك الوحشي الذي قد يمس أياً منا.

اللقطة الثانية، هي اللقطة التي ظهر فيها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، متكلماً عبر تلفون نقال، ليناشد الشعب التركي النزول إلى الشوارع، للوقوف بوجه الانقلابيين.

أقول إن هذه اللقطة الساحرة، لقطة رئيس ينحصر وجوده في شاشة تلفون نقال صغير، حركت مشاعر وحماس بل وجنون ملايين الأتراك، وجعلتهم يتركون حيواتهم ويتحركون دون إبطاء للدفاع عن الحكم الشرعي وعن تركيا وعن إردوغان. هذه اللقطة، ولن أكون مبالغاً إذا قلت إنها اللحظة الحاسمة في الانقلاب، اللحظة التي سمع خلالها الشعب التركي بالحدث، وهبَّ ليتسلم الدفة، ويقلب الانقلاب على أصحابه.

إن وقوفاً مستحقاً أمام اللقطتين يشير بدلالة واضحة إلى الأثر الكبير الذي باتت تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي، وكيف أن هذه الوسائل باتت تشكّل جيشاً قوياً وفاعلاً لا يمكن الاستغناء عنه لدى أي حكومة، ولدى أي جهة ترغب في تسويق فكرة أو سلعة. وهذا ما يبرر ما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من وجود سوق عامرة بكل أنواع البضائع، وعلى رأسها بضاعة المشاهير من أصحاب المبادئ والأفكار ونجوم الفن والرياضة، وما يمكن أن يقدموه لأي فكرة أو شخص أو جهة أو شركة، وهذا وحده صار يدرّ مبالغ خيالية تغني عن أي وظيفة!

يوما بعد يوم يتضح أن العالم يعيش تحت وطأة وسطوة عالم الميديا، وأننا بتنا نعتاش على ما تقدمه الميديا اللاهثة لنا. وهذا ينسحب على ما نأكل ونشرب ونلبس، ويتعدى ذلك لما نعتنق من أفكار ونمارس من ثقافة.

بل إن الخطر الكبير يكمن في أن الجميع صار يمتلك إذاعة خاصة به، وتلفزيونا وقناة فضائية، وأن أي شخص يحظى بأتباع، سواء كانوا حقيقيين أو صوريين، وهو ينقل لهم أفكاره، الصادقة والكاذبة، ويتواصل معهم على مدار الساعة، وقد يؤثر فيهم بسوء، وهنا مكمن الخطورة.

الميديا وشبكات التواصل الاجتماعي ما عادت تتفاعل مع الحدث، بل صارت صانعة له وباقتدار.