اندلعت حرب كوريا في 25 يونيو 1950، فهبت الرياح الساخنة للحرب الباردة بين الكتلتين الشرقية والغربية، معلنة نزاعا سيمتد عقودا ويغير أوجهاً كثيرة منها الرياضة.

وبعد عامين، أقيمت ألعاب الاولمبياد الخامس عشر من 19 يوليو إلى 3 أغسطس في هلسنكي، المدينة التي كان مقرراً أن تستضيف دورة 1940 التي تنازلت عنها طوكيو، لذا فإن المنشور الكبير الذي يرمز إلى شعار الدورة، والذي كان معداً للمناسبة التي طوتها الحرب العالمية الثانية، "نبش" من جديد وأزيلت عنه الغبار.

Ad

وتنافس في الألعاب 4955 متباريا، بينهم 519 لعبة رياضية من 69 دولة في 149 مسابقة ضمن 17 لعبة، هي: كرة السلة والملاكمة والمصارعة والدراجات وكرة الماء والجمباز والتجذيف والفروسية وألعاب القوى واليخوت والسباحة والغطس والرماية والخماسية الحديثة ورفع الأثقال والمبارزة وكرة القدم والهوكي على العشب.

وعلى إيقاع مشاهد هي خليط من السياسة والرياضة، شارك الاتحاد السوفياتي للمرة الأولى، وتعود المشاركة الأخيرة لروسيا إلى دورة عام 1912، ليكون وافداً جديداً يدق ناقوس الخطر في وجه "الهيمنة" الاميركية.

وفي القرية الاولمبية ظلل علما الألعاب والاتحاد السوفياتي صورة جوزف ستالين في مقر البعثة السوفياتية.

وكانت اللجنة الاولمبية الدولية اعترفت في مايو 1951 باللجنة الاولمبية الوطنية لاتحاد الجمهوريات السوفياتية، وحصلت ألمانيا على "رخصتها الدولية" عبر اسم جديد هي ألمانيا الاتحادية الفدرالية (أو الغربية)، ما سيؤدي لاحقا للاعتراف الرياضي بألمانيا الأخرى "الديمقراطية" أو الشرقية.

الإخراج السياسي الجديد، أعاد ألمانيا إلى حظيرة المنافسات، وشاركت دول أخرى للمرة الأولى هي غانا وجزر الباهامس وغواتيمالا وهونغ كونغ وإسرائيل واندونيسيا ونيجيريا وتايلاند وفيتنام الجنوبية.

وجمعت الولايات المتحدة 76 ميدالية (40 ذهبية و19 فضية و17 برونزية)، في مقابل 71 للاتحاد السوفياتي (22 و30 و19)، و42 للمجر (16 و10 و16).

سيطرة أميركية

وسيطر الأميركيون على ألعاب القوى والسباحة، وضرب "القاطرة البشرية" التشيكوسلوفاكي أميل زاتوبيك بقوة، ففاز بذهبيات سباقات 5 و10 ألاف م والماراثون.

أما حصيلة المشاركة العربية فكانت إحراز اللبناني زكريا شهاب فضية المصارعة اليونانية-الرومانية لوزن الديك، ومواطنه خليل طه برونزية المسابقة لوزن الوسط، والمصري عبد العال راشد برونزية المسابقة لوزن الريشة.

في الافتتاح، أوقد العداء الشهير هانس كوليهماينن (62 عاما) الشعلة في المرجل الكبير بعدما تسلمها من أسطورة الجري في عقد العشرينيات مواطنه بافو نورمي (56 عاما)، الحائز تسع ذهبيات، غير أن الفقرة الجميلة المشعة بالحنين، أفقدها توهجها اختراق امرأة ألمانية بثياب بيضاء شفافة الحشود والصراخ عبر المذياع "سلام... سلام".

وبعدها قالت المسابقات كلمتها في مناسبة "اختلاط البشرية بعيدا من أي تحفظات" كما لمسها شاهد عيان هو الفرنسي جان اشكنازي الذي اعتبر أن الرياضة "فلسفة قائمة بذاتها تزيل الحواجز والتحفظات، لقد شاهدت بأم العين بطل القفز بالزانة الأميركي بوب ريتشارد (4.55 م) يوجه منافسيه السوفيات وينصحهم خلال المسابقة. هي لا تعترف بالأمم الصغيرة والكبيرة بل تحيي المجتهد وتكافئه، فمثلا اللوكسمبورغي جوزيه بارتهل خطف الفوز في سباق 1500م وسط دهشة الجميع، وهو بكى طويلا من شدة تأثره، وتعرض المنظمون للحرج الشديد، لأنهم لم يكونوا مستعدين للمفاجأة، فلم يحضروا نشيد بلاده، ما جعله ينتظر التتويج طويلا"... هكذا أصبح بطل البلد الصغير نجما عالميا.

كوين نجمة الألعاب

أما نجمة ألعاب لندن 1948، الهولندية فاني بلانكرز كوين صاحبة الذهبيات الأربع، فتعثرت في سباق 80م حواجز، وغادرت بالدموع، لكنها ظلت شاهدة على العصر الرياضي الجديد وتطوراته المتسارعة حتى وفاتها في يناير 2004 عن 85 عاما، في حين "قبضت" السوفياتية ماريا غوردخوفسكايا على مسابقات الجمباز فأحرزت ذهبيتين وخمس فضيات، وهو إنجاز غير مألوف حتى تاريخه.

وأراد المجري كارولي تاكاش أن "يروض المستحيل" في الرماية بالمسدس السريع، فاستخدم يده اليسرى علما انه غير عسراوي، والنتيجة ميدالية ذهبية غالية.

ولفتت السوفياتية ألكسندرا شودينا الأنظار في تعدد مواهبها، وكانت حصيلتها فضية في الوثب الطويل ورمي الرمح، وبرونزية في الوثب العالي.

وباتت الفارسة الدنماركية ليز هارتل المصابة بالشلل في ساقها أول امرأة تشارك مع الرجال في مسابقة واحدة، إذ نافست في مسابقة الترويض وحلت ثانية.

وتمكنت الفرنسية مادلين مورو من كسر احتكار الاميركيات لمسابقة الغطس منذ أن أدرجت في الألعاب عام 1920، فحلت ثانية في هلسنكي، وكوفئ الاميركي بيل هانن على إخلاصه لزوجته، حين رفض المشاركة عام 1924 في الألعاب ضمن مسابقة التجذيف وفضل البقاء قرب زوجته الحامل، وبعد 28 عاما، أحرز نجله مارك ذهبية الكانوي لمسابقة 10 آلاف متر.

زاتوبيك جنرال المسافات الذي دفع ثمن شجاعته
يعتبر مراقبون كثر سباق 5 آلاف م في دورة هلسنكي عام 1952، الأفضل على هذه المسافة في تاريخ الألعاب الأولمبية، لا بل يعدونه من "كلاسيكياتها الخالدة".

هو سباق حضره 70 ألف متفرج، وجمع "قاطرة العصر" التشيكوسلوفاكي اميل زاتوبيك، والفرنسي الن ميمون، والبلجيكي غاستون ريف قاهر زاتوبيك في سباق دورة لندن 1948، والإنكليزي الخطير كريستوفر شاتاواي، والألماني هيربرت شاد.

يتذكر ميمون السباق ويصفه بالمعركة المفتوحة بقوله "كل منا كان يبذل طاقته ويتقدم ليتصدر حين تسنح له الفرصة، وليس كما يحصل حاليا حيث يتلطى العداؤون خلف "الأرنب" في المقدمة، ويتحينون الفرصة للانقضاض بواسطة السرعة النهائية في الأمتار الأخيرة".

وأضاف: "بداية، تصدر الانكليزي غوردون بيري ثم زاتوبيك بعدما تجاوز ريف وشاد، وحاولت قدر الإمكان ان ابقى قريبا منه طمعا في ميدالية اولمبية ثانية. رأيته في منتصف السباق وقد فتح فمه ومد لسانه وتدلت رقبته وهي العلامات التي تشير الى وهنه المتصاعد بينما يكون في كامل قوته. وفي اللفة الأخيرة كان لايزال في الصدارة، وكل منا يراقب الآخر ليدركه في السرعة النهائية، اعتقد انني ارتكبت خطأ كبيرا بعدم المبادرة إلى ذلك، إذ لربما كنت انا الفائز، وترددت حين لاحظت اقتراب شاد خلفي... كان ريف اصبح بعيدا قليلا وشاتاواي خلفنا. لم ينتظر زاتوبيك طويلا، فشن هجومه في المئتي متر الاخيرة، وعند المنعطف الأخير تعثر شاتاواي ووقع ارضا (قبل 80 م من خط النهاية) واستلحق نفسه بحلوله خامسا، في حين كان زاتوبيك يمضي الى حصد الذهبية التي اهدرها في دورة لندن، وبقيت خلفه حتى النهاية".

واعترف ميمون لاحقا "تحقيقي المركز الثاني انجاز، لأن زاتوبيك لا يمس، انه من عالم آخر".

سجل زاتوبيك 14.06.6 د، وميمون 14.07.4 د، وشاد 14.08.6 د.، لكن سقوط شاتاواي جعل منه نجما، علما بأنه اعترف لزملائه بعدها انه كان تعبا جدا ولم يقو على المثابرة حتى النهاية. وبعد عودته الى بريطانيا حظي بفضل "حظه العاثر" بشعبية كبيرة، ما اسهم في انتخابه نائبا ثم تعيينه وزيرا. ولولا ذلك السقوط لتمكن اربعة عدائين من تسجيل زمن دون الـ14.10 دقيقة.