يفوتنا كثير من جمال الفن والأدب حين ننظر إليهما بكثير من الأخلاق!

المنتج الإبداعي له قيمته الأخلاقية الذاتية التي لا تتطابق بالضرورة مع الأخلاق الاجتماعية أو الدينية أو الفلسفية، ولا حتى المنطقية، بل ربما تتعارض مع أي منها أحياناً، وان الحكم على جودة ذلك المنتج نقدياً يجب ألا يخضع لمقاييس الحلال والحرام، أو لمعايير العيب الاجتماعي، أو بمدى توافقه مع الأعراف والتقاليد، فالمنتج الإبداعي يخضع في الحكم عليه لمعايير جمالية بحتة نابعة من الجنس الإبداعي ذاته، شعراً كان أو مسرحاً أو رواية، أو غيرها من أشكال الإبداع الأخرى، وليس من خارج ذلك، بمعنى أن المنتج الإبداعي عند التعاطي معه وللوصول إلى مفاتيح النور فيه لابد أن نكون محصنين ضد آرائنا الإنسانية العادية ومعتقداتنا الدينية والعرفية وحتى الأيديولوجية، وأي اعتقادات أخرى لا علاقة لها بماهية الإبداع.

Ad

ولكي نكون منصفين يجب ألا ندع مجالا لأي من هذه العوامل يؤثر على قدرتنا في رؤية الجماليات الكامنة في المنتج الإبداعي واستكشاف القيمة الإبداعية فيه وتقييمه بكل تجرد بعيداً عن كل تلك العوامل، وبغض النظر عمّا إذا كنا نتفق معه أخلاقيا أم لا، فإقرارنا بجمال الشيء لا يعني بالضرورة إيماننا برسالته، إذ إنه يحدث أحياناً أننا قد نصادف ما قد يتعارض مع معتقداتنا، لكن ذلك لا يفترض به أن يعمي أعيننا عن الدهشة الخلاقة في المنتج الإبداعي إذا كان ثمة ما يدهش فيه.

نظلم ذائقتنا كثيرا عندما نحرمها التمتع بجمال الأعمال الخلاقة، لأنها فقط لا تتناسب مع ما نعتقد أنه الصواب، ونحن إذ نفعل ذلك نظن أننا نعاقب الإبداع على سوء سلوكه، فيما نحن واقعيا نعاقب ذائقتنا من المتعة الخالصة، وحرمنا أرواحنا من لذة الصفاء حين التحليق حدّ التسامي بعيدا عن شوائب عقولنا التي تمارس قوتها في شد أرواحنا إلى الدرك الأسفل ضد إرادة الجمال وجاذبيته التي تناديها إلى الأعلى، لتسمو بها فوق حساباتنا المحدودة، ويا لها من مقايضة قد لا تنم عن ألمعية أو فكر ثاقب، فالمعتقدات والمفاهيم قيمة قابلة للتغير مع الزمن، وقد تتبدل بتبدل الظروف وطريقة فهمنا ومقدار وعينا مع الوقت.

وفي المقابل، فإن الجمال قيمة ثابتة لا تقل مع مرور الوقت ولا تفقد بريقها، لذا فإننا لا شك نعبر أبلغ تعبير عن سلوك لا يتسم بالحذاقة وسلامة التفكير عندما نفرط في ما هو خالد بما هو زائل، ويصعب تصور مدى ما نرتكب من حماقة عند فعل ذلك، فلنا أن نتصور مثلاً ما فات أولئك الذين حرموا أنفسهم من قصائد نزار لأسباب أخلاقية، أو الذين أغلقوا أبواب قلوبهم أمام نصوص أبي العلاء المعري أو الحلاج أو أنسي الحاج لأسباب عقائدية، أو الذين أشاحوا بأبصارهم عن راقصة "باليه" لأسباب تتعلق بالعيب، أو صموا آذانهم عن الموسيقى لوجهة نظر مرتبطة بالدين، فلا تفوتوا على أرواحكم فسحة من جمال إبداع، حتى لو لم تطمئنوا لنواياه!