سقط انقلاب مساء 15 يوليو في تركيا في ليلة مشهودة، ومليئة بأحداث ستظل تؤثر في المشهد السياسي التركي والإقليمي، وخاصة أنها مرحلة فاصلة في ترسيخ النظام الديمقراطي الذي عمده الشعب التركي بدمائه، وثبَّت أركانه بأجساده، التي دهست جنازير الدبابات العديد منها، وخرقت بعضها رصاصات العسكر، بعد أن نزل الأتراك إلى الشوارع، للدفاع عن إرادتهم التي أودعوها مؤخراً في الصناديق الانتخابية.في تلك الليلة الطويلة، رُسخ الرئيس رجب طيب إردوغان كزعيم تركي تاريخي، كما أن تلك الأحداث سيظل العالم يتحدث عنها بالخبر والتحليل لسنوات طويلة مقبلة.
لكن اللافت والمهم بالنسبة لي كمتابع ومعني بالشأن العام وعامل في المجال الإعلامي العربي، هو سلوك الجماهير العربية الجارف لتأييد إردوغان، وتحديداً العرب السُنة منهم، الذين كانوا من شدة حماسهم على وشك التدافع إلى أنقرة، للدفاع عن إردوغان وحزبه وإعادتهم إلى قصر الحكم!أسباب اندفاع الجماهير العربية لنصرة إردوغان واضحة، بسبب الهجمة العالمية على المسلمين، وتحديداً العرب منهم، والانكسارات والهزائم العربية المتتالية في لبنان والعراق وسورية واليمن، مقابل توسع إيران، بمشروعها الطائفي الفارسي، المدعوم من الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا، والعربدة الإسرائيلية، التي أوشكت على تصفية القضية الفلسطينية برضا دولي.في المقابل، انسحبت مصر من الشأن العربي، وانشغلت بمشاكلها الاقتصادية المزمنة وملفاتها الأمنية، كما تم إلهاء مسلمي جنوب آسيا؛ باكستان وأفغانستان، بالإرهاب الأصولي، ويتبقى إسلام أقصى آسيا الانعزالي في إندونيسيا وماليزيا بعيداً عن قضايا الأمة.أما دول الخليج، فرغم إمكانياتها المادية الهائلة، فإن مقوماتها البشرية لا تمكنها من مواجهة مشروع إقليمي كبير تشارك فيه إيران والولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، وبتخطيط إسرائيلي واضح، وهو ما نشهد نتائجه من مذابح وتطهير عرقي للسُنة العرب، من البصرة في العراق حتى سواحل البحر المتوسط في لبنان، مروراً بسورية ومذابحها المشهودة وممارسات الأكراد ضد العرب السُنة، بدعم من القواعد الأميركية في الإقليم الكردي، ومساندة سياسية ومادية من الأوروبيين والإسرائيليين للأكراد.في ظل كل هذه النكبات، يبحث العربي، وتحديداً "السُني"، عن مشروع إسلامي، بعد أن فقد الأمل في المشروع القومي العربي، الذي أسقطه بعض السذج من زعمائنا، ولم يحاولوا تطويره، ليجمع كل المذاهب والأعراق التي تعيش بيننا، العربي السُني الفاقد للزعيم في مجتمعاتنا الأبوية التي تؤله مفهوم "الزعيم البطل"، تلك الجماهير بعد أن مُنيت بالخسائر تبحث عن بطل جديد ومشروع إقليمي كبير يوازن المشروع الإيراني الفارسي، ورسموا ذلك "الزعيم" بمخيلتهم في إسطنبول.لكن الحقائق تقول إن إردوغان زعيم ضمن مشروع قومي تركي يبحث عن رفاه أبنائه وأمنهم، ويولي وجهه نحو أوروبا، وغير معني بالعرب، بل يستخدم قضاياهم لتبادل المصالح مع الأوروبيين، ودفعهم لقبول تركيا عضواً في الاتحاد الأوروبي، لحماية الباب الخلفي لأوروبا من المهاجرين والإرهابيين العرب، لذا فإن جميع الخطوط الحمر التي وضعها إردوغان لبشار الأسد في حلب وغيرها كانت كلاماً بلا فعل، وعادت تركيا لتفتح أبوابها للروس والإسرائيليين والإيرانيين، وتتغاضى عما يقع بحق العرب والتركمان من مذابح في العراق وسورية.الواقع، إن إردوغان لن يكون زعيماً أو بطلاً عربياً، وإسطنبول كعاصمة للخلافة أو عودة الحقبة العثمانية، هي تراث وتاريخ لن يعودا، وما دام المشروع العربي غائباً، فإنه لا أحد سيسد الفراغ أو يدافع عن وجودنا ومصالحنا سوى أنفسنا بمشروع متكامل قد لا يكون فيه زعيم أوحد أو بطل تقليدي، لكن يجب أن يكون فيه إرادة عربية على التوحد والاتفاق على مشروع قومي عربي، وليس إسلامياً، تنعكس فيه رغبات شعوبنا في أنظمة ديمقراطية عادلة وغير فاسدة، لتواجه ما يُعدُّ للعرب من مشاريع تقسيم وشرذمة جديدة لأوطانهم.
أخر كلام
إردوغان زعيم تركي... ولن يكون عربياً!
21-07-2016