لا تمنح عقلك
تختلف درجات الوعي من شخص لآخر، كالاختلافات البشرية الأخرى. لكن هناك حدا أدنى من الوعي يمتلكه كل إنسان عاقل. وهذا الحد الأدنى من الوعي يجب ألا يتنازل عنه الإنسان لأحد مهما كان موقعه الثقافي أو الديني تحديدا. احتل الصوت الديني مكانة كبيرة في الوعي الإسلامي، ويمثل هذا الصوت ما يشبه القدسية التي قلّما تتم مناقشتها أو الخروج عليها وردها للثقة المطلقة التي اكتسبها رجل الدين الذي يتوسم فيه المتلقي الصدق والعلم والمعرفة. وتسلّم العامة أحيانا بأن درجة الوعي التي يمثلها صوت الخطاب الديني فوق المساءلة، كما يجد هذا الخطاب درجة تقبّل استلهمها من مرجعية نشأت في العقل المسلم وتربى عليها متلقي الخطاب الذي أوكل مهمة البحث والاطلاع لأصحاب هذا الخطاب. ورغم أن المعلومة أصبحت متوافرة بيسر كبير ويستطيع كل من يريدها البحث عنها، وأصبحت المعرفة لا تتطلب جهدا في ضوء المعلوماتية الحديثة، فإن أصحاب هذا الخطاب يتعاملون مع المتلقي بذات الطريقة التي كانوا يمارسونها قبل عصر الثورة المعلوماتية. خطابان أثارا كثيرا من الأسئلة في ذهن المتلقي وهو يرى كيف يتعامل معه أصحاب هذا الخطاب القديم.
الأول، هو ما ورد في خطاب مفتي أنقرة بأنه رأى الرسول الكريم في المنام وأوصاه برجب إردوغان. ونحن لسنا بصدد مناقشة صدق منامات المفتي أو كذبها، لكننا نناقش فلسفة هذا الخطاب. فالمفتي يعرف بأن المتلقي سيسلم به طالما أن المفتي هو المخول شرعا بهكذا منامات. والمفتي هنا صاحب صوت ديني يستمد شرعيته من مكانته الدينية التي يثق بأن الناس ستتقبلها منه مقارنة بغيره. فلو كان هذا المنام لرجل آخر لا يحتل المكانة التي يحتلها المفتي لما التفت إليه أحد، ولما تناقلت الناس خبر منامه، وربما اتهم مباشرة بأنه رجل ضال أساء إلى الرسول الكريم. أما أن ينطق بهذا الخطاب رجل بمكانة المفتي، فبالتأكيد هناك وعي يتقبل هذا، وربما يدافع عنه، لأنه يدافع عن مكانة الرجل لا الرجل.الخطاب الثاني، هو ما بثته قناة العربية عن شيخ دين، وهنا أيضا يتوسم المتلقي بأن شيخ الدين يمتلك وعيا ومعرفة يفوقان وعيه، وتفكيرا يفوق قدرته على التفكير، وهو يخبر قصة أم إردوغان التي يقبل قدمها كل يوم قبل أن يذهب لممارسة عمله الرئاسي، ويؤكد تفاصيل القصة بأن الأم ترفض ذلك، لأن الابن الآن رئيس الدولة، ولا يليق به تقبيل قدميها، ثم يخبرنا الشيخ بالرسالة المبطنة لهذا الخطاب، وهي أن إردوغان يبحث عن الجنة تحت قدمي والدته. ونكتشف بأن والدة إردوغان توفيت قبل أن يصبح رئيسا بثلاث سنوات. لم يحتج الشيخ للبحث بسهولة عن حقيقة حياة الوالدة، فهو لا يحتاج إلى ذلك، لأنه يتعامل مع متلقٍ أسلم وعيه الكامل، ومنحه عقله، ليحدثه بما يريد دون أن يرد عليه شيئا من خطابه.هذا الخطاب الذي يتعامل مع عقول ليست أكثر من دلاء يصب فيها شيوخ ومشايخ الدين ما يريدون لم يعد ممكنا اليوم، وهو خطاب لم يعد مسلما به إذا أراد الإنسان أن يبحث في حقيقته، بعيدا عن الثقة المطلقة التي سلم بها بأن رجل الدين لا يمكن أن يزوّر خطابه ويستخدمه لأغراض سياسية أو يكرسه لشخوص لها مكانتها السياسية. لست ضد أن يكون رجل الدين صاحب موقف سياسي، فهذا حقه الطبيعي، وبإمكانه الإعلان عن هذا الموقف دون اللجوء إلى صفته الشرعية ليأخذنا معه إلى ذات الموقف حين نمنحه عقولنا مجانا.