يظن كثيرون أن الإعلام مجرد عامل ثانوي في حسم النزاعات السياسية؛ وهو أمر يعكس تفكيراً يواكب منتصف القرن الماضي، ولكنه لا يفسر الكثير من الأحداث والصراعات التي وقعت اعتباراً من التسعينيات الفائتة.يقوم الإعلام بدور جوهري في حسم الصراعات السياسية؛ وهو دور لا يقل فاعلية أو تأثيراً عن القوة الصلبة ومهارات إدارة الأزمات والقدرات اللوجستية والمال.
لكن الإعلام الذي يتفاعل في صراعات السياسة الراهنة ليس إعلام منتصف القرن الماضي؛ إذ بات هذا الإعلام يتوزع على ثلاثة أطر رئيسة.سيتضح هذا الأمر حين نستعرض ما جرى إعلامياً خلال المحاولة الانقلابية الفاشلة التي شهدتها تركيا أخيراً؛ حيث نجد أن الانقلابيين حاولوا بداية السيطرة على التلفزيون الرسمي، كما نجد أن إردوغان استخدم تطبيق تواصل اجتماعي حديثاً ليصل إلى الجمهور، كما نجد أن بقية وسائط التواصل الاجتماعي عملت على توجيه الجمهور لاتخاذ قرارات معينة، فيما نشطت منابر المساجد في أعماق البلاد في الحشد والتعبئة، عبر إضاءة مصابيحها، والصدح بعبارة "الله أكبر" من فوق المآذن.يمكننا أن نجد طريقة لفهم كيفية عمل أطر الإعلام الرئيسة الثلاثة حين نحلل تلك الطريقة في الواقع المصري؛ فحين اندلعت الانتفاضة في يناير 2011، فوجئ كثيرون بالنفوذ الكبير الذي اكتسبته وسائط التواصل الاجتماعي، إلى الحد الذي دعا بعض المحللين إلى إطلاق لقب "ثورة الإنترنت"، أو "انتفاضة الفيسبوك" على ما جرى آنذاك.كان نظام مبارك يحكم السيطرة على منظومة الإعلام النظامي؛ وهي منظومة كبيرة تتألف من ترسانة ضخمة من وسائل الإعلام المملوكة للدولة، والتي كانت تحت هيمنة الحكومة، إضافة إلى وسائل إعلام خاصة تعمل ضمن حدود معينة، تفرضها التدخلات الأمنية، والضغوط التي تمارسها الدولة على رجال الأعمال المالكين لها.ورغم أن هناك أسباباً عديدة تفسر المفاجأة التي أصابت نظام مبارك وبعض المحللين والباحثين آنذاك، فإن من بين تلك الأسباب عجز هذا النظام عن رصد ما يجري على وسائط التواصل الاجتماعي وفهمه وتحليله.إن الإعلام في مصر في ذلك الوقت لم يكن فقط "الإعلام النظامي" الممثل في الصحف والإذاعات والقنوات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية التابعة لها، وهي منظومة كانت تحت يد نظام مبارك أو عينه، ولكن هذا الإعلام كان يضم إطاراً آخر لم ينتبه البعض لخطورته الكبيرة... هذا الإطار يمكن تسميته "القناة الثانية" أو "الإعلام غير النظامي"، أو "وسائط التواصل الاجتماعي".ففي تلك "القناة الثانية" البعيدة نسبياً عن يد النظام وعينه آنذاك، أمكن بلورة الشعور بالاحتجاج، وتعميم السخط، وتبادل المعلومات، والحشد، والتعبئة، والاتصال، والتنسيق الميداني، وصولاً إلى تصليب الاحتجاج، وتطويره، وإطاحة الرئيس.هل يعني هذا أن لدينا، في الدول العربية والإسلامية، منظومتين إعلاميتين كبيرتين؛ إحداهما تُسمى منظومة "الإعلام النظامي"؛ أي وسائل الإعلام المعلومة الهوية والمالك، والتي تصدر عن مؤسسة أو شركة مسجلة، وثانيتهما تُسمى بـ"الإعلام غير النظامي" أي المحتوى الإعلامي الذي يتم بثه عبر وسائط التواصل الاجتماعي، أو من خلال صفحات وحسابات ومنتديات غير معلومة المصدر، ولا توجد طريقة واضحة للتثبت من صحته، أو محاسبة المسؤولين عنه، في حال تورط في الأخطاء؟الإجابة لا... لأن لدينا ثلاث منظومات إعلامية.فما المنظومة الإعلامية الثالثة إذاً؟إنها "إعلام المنابر".يجب أن نتذكر أن نتائج الاستفتاء الذي جرى على التعديلات الدستورية في مصر في مارس 2011، جاءت معاكسة تماماً لما كان سائداً على وسائط التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام النظامية.وفي الانتخابات البرلمانية التي جرت في نوفمبر 2011، فاز الإسلاميون بأكثر من ثلثي مقاعد مجلس الشعب، رغم أنهم لم يكونوا قد أحكموا سيطرتهم على وسائل الإعلام النظامية أو وسائط التواصل الاجتماعي، وفي هذه الانتخابات بالذات، أفادت شركات بحوث متخصصة، أن بعض الأحزاب المدنية اضطر إلى إنفاق نحو ستة ملايين جنيه (نحو نصف المليون دولار أميركي) في المتوسط، عبر وسائل الإعلام التقليدية، للحصول على مقعد واحد في مجلس الشعب.ولاحقاً، فاز مرسي بالانتخابات الرئاسية 2012، رغم أنه لم يكن الأكثر إنفاقاً إعلانياً، أو نفاذاً إعلامياً عبر "الإعلام النظامي أو السوشيال ميديا"، فكيف حدث ذلك؟ثمة أسباب عديدة يمكن أن تبرر الصعود الكبير للتيارات الإسلامية في تلك الأثناء رغم أنها ليست الأفضل تمركزاً في المنظومتين الإعلاميتين النظامية وغير النظامية، لكن لا يمكن تصور أن تحقق تلك التيارات نفاذاً وتأثيراً في الرأي العام من دون ذراع إعلام ودعاية، أي من دون منظومة إعلامية مساندة."إعلام المنابر" هو المنظومة الإعلامية الثالثة التي تتفاعل في الواقع المصري؛ بوصفه نشاطاً اتصالياً، ينطوي على رسالة محددة، ومرسل، ومستقبل، وهدف، وسياق تلقي، ووسيلة... أي المنبر.تمتلك الدول العربية والإسلامية مئات الآلاف من المساجد المنتشرة في أعماق البلاد، وعبر منابر تلك المساجد تُبث رسائل دينية وسياسية، وبعض تلك الرسائل يخص الانتخابات، أو المواقف السياسية، أو يزرع عقائد لخدمة تيارات معينة.ولهذا السبب، فقد سعت الحكومة المصرية أخيراً إلى تفعيل قرار بتوحيد خطبة الجمعة، بحيث تكون عملاً دينياً، يستهدف النسق الروحي والقيمي والشعائري، ولا ينزلق الوعاظ خلالها إلى تناول القضايا السياسية التي تخضع لخلافات حزبية، أو يشيعوا خطاباً منافياً لجوهر الدين السمح، أو مبرراً للعنف والتمييز والكراهية.وكانت السعودية وبعض دول الخليج العربية طبقت نظام الخطبة الموحدة، لكي تضمن عدم انزلاق الخطباء إلى موضوعات سياسية ذات طبيعة خلافية، أو الترويج لأفكار طائفية.تقتضي اعتبارات القوة امتلاك قدرة تأثير ونفاذ في أطر الإعلام الثلاثة؛ لأن من يمتلك حصة غالبة في تلك الأطر يعزز فرصه في حسم الصراعات لمصلحته.نجح إردوغان، على مدى عقد من الزمن، في تطويع منظومة الإعلام النظامية في بلاده، ويهيمن أتباعه على إعلام المنابر، بسبب الطابع المحافظ والخلفية الدينية لحزبه، وها هو ينجح في اختراق وسائط التواصل الاجتماعي ويستخدمها ببراعة، ولذلك يكسب المزيد من المعارك.* كاتب مصري
مقالات
«انقلاب تركيا»... الإعلام ليس مجرد تلفزيون
24-07-2016