تفجيرات الثقافة
تفجير يومي هنا أو هناك، محطات فضائية إخبارية تقطع بثها المعتاد لتنتقل إلى محل الحدث، ومئات ملايين المتابعين حول العالم يشاركون في صنع الحدث عبر تغريدات "تويتر"، وجمل "الفيسبوك"، وصور "الإنستغرام"، ومقاطع "السناب تشات". منذ بداية التسعينيات وبقدر ما تنتح التكنولوجيا مزيداً من التقدم التقني، وتنشره بين البشر، بالقدر نفسه تنبثق أحداث مخيفة لتعادل ذلك الإنتاج. إنسان يخترع آلة ذكية من جهة، وإنسان آخر يخترع موتاً متجدداً من جهة ثانية، إنسان يخوض في تجديد علاقة البشر بما حولهم، وآخر يسخّر نفسه للبحث عن وسيلة مبتكرة للعنف والقتل. هو قانون الحياة؛ البعض يبحث عن حياة متجددة زاهية، وبعض آخر منشغل يفتش عن موتٍ أسود كريه!آلة "هوليوود" الهائلة مازالت تستمد وجودها وتعتاش على العنف والجنس! تنتج كل يوم أفلاماً، فتجدد وصلها وتواصلها مع جمهور السينما حول بقاع الدنيا. استديوهاتها ومصانع إنتاجها وبمساعدة عقول البشر تتفتق عن عنف مجنون وعن مخلوقات قاتلة ومصائب تحيط بالأرض. تنطلق أفلام هوليوود لتبث عنفاً مجنوناً على شاشات السينما، وشيء من تلك الشاشات ينتقل إلى عقول وصدور بشر تتلقفه وتحاول تقليده. لكن، ليس أمام كاميرا المخرج وبأسلحة وهمية، بل أمام كاميرا الحياة وبأسلحة حقيقية تقتل بشراً أبرياء، لا تفرق بين كبير أو صغير، أسود أو أبيض، مسلم أو مسيحي، هو القتل يعتاش على حياة البشر!العالم وهو يتابع أحداث العنف والقتل والدمار، إنما يتناسى أو ينسى أي أخبار أخرى، وعلى رأس تلك الأخبار المنسية تأتي أخبار الثقافة! فرنسا تعودت منذ قرون على إنتاج ما يُسمى بروايات الصيف. مئات الروايات تطلقها دور النشر الفرنسية لتكون سلوى فكرية وأدبية للقارئ خلال فترة إجازة الصيف. الفرنسي يستقبل إجازة الصيف ملتفتاً للروايات الجديدة، لكن، معادلة الحياة اختلفت خلال السنوات القليلة الماضية. أحداث العنف والقتل المجاني المرعب أخافت وتخيف الناس، هذه الأحداث المقيتة، وبوجود مواقع الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي، نجحت في تسريب الخوف والرعب لقلوب الناس. أعاد الإنسان نظرته لما حوله، تغيّرت قائمة أولوياته؛ استجد اهتمامه بأمور وسقط ولعه بأمور أخرى، وعلى رأس ما سقط، سقط شيءٌ من اهتمام الناس بالثقافة والفكر والفن.
نعم، أصاب العنف الأعمى الذي ينتشر في جميع بقاع الأرض الفكر والثقافة والفنون والكتاب والقراءة في مقتل. كل وقت يفرز بيئته. وإذا كانت حوادث العنف المجنون والقتل واضحة وظاهرة للعيان، فإن فعل ابتعاد الإنسان عن الثقافة والفكر والفن، ينعقد خلسة في اللاوعي، يتسرب شيئاً فشيئاً إلى مسلكه حتى تغدو علاقته بالفكر والفنون والآداب انعكاساً لما يعيشه.الفكر والثقافة العربيان من أكثر المتضررين فيما يحصل، ففي البلدان العربية التي تعيش حروباً أهلية طاحنة واضطرابات يومية ابتعد المواطن العربي عن أي قصيدة أو رواية أو مسرحية أو أغنية أو فيلم أو لوحة، فهو مطحون في البحث عن مأوى آمن، وهو يستصرخ العالم كي يلتفت لمأساته، ولا من مجيب. ولذا فليس بغريب أن يتهاوى فعل المبدع والمثقف أمام فعل الاضطراب والحرب والقتل والدمار. وعلى الضفة الأخرى، في الغرب وأميركا ولأن ما يجمع أولئك الذين ينذرون أرواحهم لقتل البشر، كونهم عرباً أو مسلمين، فإن الإنسان الغربي بات يستنكر الفعل العربي المسلم، ويحاول ما أمكنه الابتعاد عن العرب والمسلمين، بما في ذلك إنتاجهم المعرفي والفكري والإبداعي. قلة أولئك الأوربيون الذين يقدمون على شراء رواية مترجمة لعربي، إلا إذا كان موضوعها يصبّ في خانة تعزيز فكرتهم عن العرب والمسلمين.كنتُ قبل أسبوع في حديثٍ مع ناشر أميركي، سبق له نشر أكثر من عمل روائي عربي، قال لي: "بت أتردد كثيراً أمام نشر أي عمل لأي كاتب عربي"، وسكت برهة قبل أن يتابع: "بعض زملائي في الدار صار يحذرني من نشر أعمال لا يلتفت إليها أحد".أحزنني ما قاله، وأحزنني أكثر أنه الحقيقة!