الاقتصاد معركة مختلفة
مرعب ما يحدث في مصر...لم يعد السؤال عن قيمة الجنيه ذا معنى، لأن سعر الصرف قبل السؤال يختلف عن السعر بعد السؤال، تآكلت العملة الوطنية، وفقدت في يومين ما كانت تخسره في سنوات، قبل أن تبدأ رحلة الهبوط التي تبدو حتى الآن بلا قاع تقف عنده، اختفت نبرة الثقة من تصريحات المسؤولين، وراحت معها الآمال العريضة التي صنعتها وعود رافقت بدء حفر تفريعة قناة السويس، ثم عقد المؤتمر الاقتصادي في شرم الشيخ.قبل سنتين فقط كان الدولار يساوي 7.25 جنيهات، ثم انطلقت العملة الخضراء بلا توقف، وقفزت فوق كل الحواجز، واقتربت من رقم 13 جنيها، حتى لم يعد المحللون يسألون: هل سيصل الدولار إلى رقم 20 جنيها، وإنما صار السؤال: متى؟
تجاوز النظام السياسي الحالي تحديات مختلفة، وثبّت أقدامه بعد أن سحق خصومه مؤيداً بشعبية كانت جارفة، لكن المعركة هذه المرة مختلفة، والتغلب على أرقام مثل ارتفاع الدين العام، وزيادة عجز الموازنة وانخفاض إيرادات السياحة وتناقص تحويلات العاملين في الخارج وتراجع الاستثمارات يتطلب أدوات أخرى.ربما يفلح قرار روسي منتظر بعودة السياحة إلى مصر في وقف انهيار الجنيه مؤقتا، وقد يكون مفيدا الحصول على قروض جديدة عاجلة من السعودية والإمارات وصندوق النقد الدولي، لكن المؤكد أن حصار الأزمة وتجاوزها يتطلب إصلاحات حقيقية لإنعاش الاقتصاد المصري، وزيادة الناتج القومي، وهي إصلاحات قد تعني تغيير المسار تماما. يعرف المسؤولون خطورة الأزمة الحالية، وتحمل لهم التقارير الأمنية صدى أنين الناس من الارتفاع الفاحش في الأسعار، ويدركون –لا شك– أن المؤيدين لم يعودوا قادرين على تقديم أي تفسير مقنع للفشل في تحقيق أي من الوعود التي بذلت بسخاء طوال عامين، ويتخوفون من تأثير التراجع الفادح في شعبية النظام، إلا أن الشجاعة في مواجهة الحقيقة ما زالت غائبة.لم يحاسب أحد، وفي الأغلب لن يحدث بسبب إنفاق أكثر من مئة مليار جنيه (بينها 40 ملياراً فوائد) على مشروع تفريعة القناة، دون إجراء دراسة جدوى اقتصادية، بل إن الطريقة نفسها ما زالت متبعة دون مراجعة في مشروعات أخرى، مثل إنشاء عاصمة جديدة، أو استصلاح أراض لزراعتها، ولم يحاسب أحد، ولن يحدث، على التعثر في تنفيذ الصفقات التي أبرمت مع مستثمرين أجانب خلال مؤتمر شرم الشيخ، حتى تبخرت الصفقات وتبددت معها الأحلام. ولا توجد حتى الآن ملامح خطة جادة لمواجهة تأثير انخفاض قيمة الجنيه على أسعار السلع في بلد تستورد 70 في المئة من احتياجاتها الغذائية.والأسوأ أن العام المقبل هو الموعد المحدد لانتهاء إثيوبيا من بناء مشروع سد النهضة، الذي قد يؤدي خلال فترة ملء الخزان إلى نقص فادح في حصة مصر من مياه نهر النيل، وبالتالي انهيار القطاع الزراعي الذي يسهم بما يقرب من ثلث الناتج المحلي، وهو ما يعني وقتها أن الأزمة الاقتصادية ستأخذ منحنى باتجاه أخطر سيناريو يمكن توقعه.هذه أزمة قد تكون حاسمة في التاريخ المصري، بما ستؤدي إليه من تداعيات سياسية لن تكفي القبضة الأمنية، مهما توحشت، في منعها، والغريب أن طريقة المعالجة مازالت تقليدية وبائسة.