يسكن في نفوسنا وهم كبير، متمكن منا ومتجذر فينا، هو الذي يقودنا إلى ما لا يقره العقل أو يقبل به، فتاريخ شعوب المنطقة هو المرآة الصافية التي نرى على سطحها قوة الوهم وحجمه، ذاك أننا من بين شعوب الأرض من شهدنا أكبر هزائم متتالية ساحقة على المستويات الحضارية والعسكرية والثقافية والاقتصادية، نمد رؤوسنا بعد كل واحدة منها لنطنطن بالنصر والكرامة والعزة وبأننا قذفنا العدو- سواء أكان عسكريا أم ثقافيا– إلى مزبلة التاريخ!

هذا الوهم المستوطن في أذهاننا استسلمنا له وسحرنا به كما تسحر الطريدة بعيني صائدها ليقودنا إلى عصور التوحش والبهيمية التي تتكرر مشاهدها البائسة في ربوعنا، ويوقظ وحوش الطوائف والمذاهب ويطلقها في المدن والقرى والأزقة لتقتات على الدم واللحم الحي، وذلك يشير إلى عطب عميق في البنية الذهنية لإنسان هذا المجتمع، وهو عطب من بين سماته المتعددة الحس الأخلاقي، وتحديدا الكذب وخداع الذات.

Ad

وفي هذا السياق يلوح سؤال على قدر كبير من الأهمية: لماذا يتجذر خداع الذات في الذهن الإنساني؟ يذهب الاجتماعيون والنفسانيون إلى اعتماد نظرية التفاعل الاجتماعي، من خلال قولهم: إن الميل إلى خداع الذات ليس سوى جزء من الطبيعة البشرية كونه يساعد على تواصل البشر وتعاملهم مع بعضهم. فخداع الذات لا يقتصر على تهوين مشقات الحياة على البشر وتزويدهم بالقدرة على مكابدة الحياة، ولكن الأكثر أهمية هو مساعدة المرء على الكذب على الآخرين، وأحد أبرز المنظورات في الاجتماع الحيوي الحديث يتمثل بالتأكيد أن خداع الذات هو في الأساس تابع للخديعة؛ بالمعنى الذي نتمكن فيه عند إخفاء الحقيقة عن أنفسنا من إخفائها بشكل كامل عن الآخرين، وذلك يجعل خداع الذات والخديعة مستقرين معا في عمق إنسانيتا، وخلافا لمقولات التراث الشعبي والسيكولوجي التي تعد الكذب والخديعة علامتين على اضطراب عاطفي فإنه غالبا ما يكون ضروريا لتحقيق ضرب من التوازن النفسي.

وكائنا ما كان الأمر، فإن تقدم العلم كل يوم وتقديمه البرهان تلو الآخر على منجزاته ومكتشفاته جعلا الكذب يتموضع في جانب خيالي ورومانسي لا غنى للإنسان عنه، فهو أحيانا يجعله امتدادا لبشريته على الطبيعة وما يحيط به من عالم موضوعي، على النحو الذي يستعمل الكذب في غير الإنسان كالقول: كذب البرق والحلم والظن والرجاء والطمع والرأي، أو في استعماله للبرهنة على مجافاة الصواب، كالقول: كذبت العين، أي خانها حسها. والحال كذلك، بتنا نواجه الواقع وأحداث العالم الدائرة حولنا بالكذب على الذات، وهذا ليس مستغربا، ألسنا أحفاد أبي نواس وهو من مدح الرشيد:

وأخفت أهل الشرك حتى إنه

لتخافك النطف التي لم تخلق.