يقول الإعلاميون السوريون "الجدد" إنهم يريدون "التحرر" من "طغيان" نظام بشار الأسد، وكسر الانغلاق الإعلامي المهيمن على الأوضاع في بلادهم لأكثر من خمسة عقود، والخروج من أسر الماضي الاستبدادي إلى فضاء أوسع وإعلام حر.

إن بعض هؤلاء الإعلاميين السوريين الجدد دخل مجال الإعلام من باب "الثورة" كناشط سياسي أو "ثائر ضد الطغيان"، ومعظمهم بدأ للتو تجريب حظه في ممارسة مهنة الإعلام.

Ad

ينخرط هؤلاء الإعلاميون السوريون الجدد في العمل في وسائل إعلام مطبوعة ومسموعة ومرئية وإلكترونية جديدة، يبلغ عددها المئات، وتتكاثر كالفطر، ويصدر بعضها، ثم يتوقف عن الصدور، ثم يصدر مرة أخرى، أو يندثر.

يتم تمويل أغلب وسائل تلك المنظومة الإعلامية من خلال منح خارجية تأتي من أوروبا والولايات المتحدة، أو بعض الدول الإقليمية، دون أن تمتلك دوائر صناعة متكاملة، تسمح بتوليد عائدات.

ورغم ذلك، فإن معظم هؤلاء الإعلاميين يعتقد أن تلك الوسائل يمكن أن تشكل صناعة إعلام قابلة للاستدامة والازدهار، والوفاء بحقوق الجمهور، في مجتمع حر يمر بمرحلة انتقال ديمقراطي، في حال سقط النظام، وإن هذا الطرح غير دقيق، أو، على أقل تقدير، يحتاج إلى مراجعة.

لقد ظل الإعلام السوري مثالاً شديد الوضوح على الأحادية والانغلاق والتوجه الدعائي والانقطاع عن القيم المهنية، لأكثر من أربعة عقود، رغم انطوائه على الكثير من الإعلاميين الأكفاء والنابهين.

لهذا فقد تم الاحتفاء بأجواء "الحرية" التي رافقت "الحراك الثوري"، وجعلت صناعة الإعلام السورية تشهد في السنوات الخمس الأخيرة اتساعاً غير مسبوق في تاريخها؛ إذ صدر عدد كبير من الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية بشكل لم يكن أكثر المتفائلين يتوقعه. ولأن وضعاً إعلامياً جديداً ينشأ على أنقاض وضع قديم، فقد أطلق إعلاميون وباحثون وخبراء على الوسائل الإعلامية الجديدة التي ظهرت حديثاً، اسم منظومة "الإعلام البديل".

يريد هؤلاء الإعلاميون والخبراء أن يقولوا إن ما ظهر من وسائل إعلام جديدة تعنى بالشأن السوري، داخل البلاد، أو خارجها، بات يشكل نسقاً جامعاً له سمات مشتركة، وأنه، إضافة إلى ذلك، يطرح بديلاً لإعلام الدولة السورية الأحادي المنغلق.

يحظى هذا الطرح بتوافق، وسيصعب جداً دحضه أو تجاهله؛ لذلك علينا أن نسعى إلى فحصه وتحليله، ومحاولة التعرف إلى نقاط تميزه وضعفه، وإلى أي حد يمكن أن يخدم الإعلام السوري والمصلحة العامة في هذا البلد. لقد اتسعت الصناعة اتساعاً كبيراً، وأصبحت أكثر تنوعاً، وأكثر تمتعاً ببيئة العمل المنفتحة والأقل قابلية للضغوط والقيود. وزاد عدد الصحافيين والإعلاميين، وبات المواطن السوري، أو العربي الذي يريد أن يعرف أخبار سورية، أمام طيف عريض من الوسائل.

طرح "الإعلام البديل" وجهة نظر أخرى عما يجري في سورية، بعد أكثر من أربعة عقود من الاستسلام لوجهة نظر واحدة تقريباً، وتلك ميزة مهمة أيضاً.

لكن، ماذا عن نقاط الضعف في تلك المنظومة الإعلامية الجديدة؟

تتمثل نقطة الضعف الأولى في تلك المنظومة في انتمائها السياسي؛ فغالبية تلك الوسائل تنتمي إلى قوى معارضة سورية، أو تعبر عن تيارات معارضة بعينها.

يمثل هذا الانتماء السياسي، وما يصحبه من أنماط أداء دعائية غالباً، المعادل الموضوعي للخطأ الجوهري الذي وقع فيه الإعلام السوري التابع للنظام. لا تستهدف تلك الوسائل معظمها تحقيق الربح، أو حتى الوصول إلى نقطة التوازن لمعادلة النفقات، لكنها بالطبع تسعى إلى إحداث أثر سياسي، يتعلق برؤيتها لما يجب أن تكون عليه الأوضاع في سورية، وبالتالي فهي لا تقيم وزناً لاعتبارات الصناعة وضمان الجدوى الاستثمارية، طالما أن أهدافها السياسية تتحقق، وهنا يتعمق الأداء الدعائي لها، وتفقد صلتها شيئاً فشيئاً بقيم العمل الإعلامي.

كثير من العاملين في تلك الصناعة الجديدة في سورية وخارجها ليسوا من الإعلاميين، والكثير من هؤلاء ناشطون أو سياسيون أو مقاتلون، وهم دخلوا الإعلام من باب "الثورة"، أو "الجهاد"، أو القتال، وهم يريدون أن يستخدموا تلك الوسائل الممولة في تحقيق أهدافهم السياسية لا في إعلام الناس.

غالبية الأموال التي يتم ضخها في تلك الصناعة غير معلومة المصدر، وهناك دول إقليمية وأجنبية كثيرة تستثمر في هذا المجال. الاستثمار هنا يستهدف فقط الجدوى السياسية، وبالتالي لا يضمن كفاءة المنتج، ولا يُخضع الأداء للتقييم المهني، لكنه يريد الناتج السياسي، وهو أمر يعمق مشكلات تلك المنظومة، ويحرفها أكثر وأكثر.

ثمة إشكال آخر يتسم بخطورة شديدة؛ إذ رغم تعدد مصادر التمويل، وكثرتها، وسخاء بعض الممولين؛ فإن معظم خطط التمويل لتلك الوسائل ينحصر في مدد زمنية لا تتجاوز ستة شهور.

يقول خبراء صناعة الإعلام إنه "لا توجد صناعة صحافة بلا دراسة جدوى" No Press industry without Business Plan ، لكن بعض أنماط التمويل الإقليمية والأجنبية تتعمد عدم تأسيس صناعة الإعلام السوري البديل على دراسات جدوى.

لا تُمنح الفرص للقائمين على صناعة تلك الصحف والمجلات والمواقع والفضائيات والإذاعات لكي يشخصوا جمهورهم، أو يحددوا احتياجاته، أو يرصدوا الخدمات والسلع التي تباع في محيطه، أو يبحثوا قدرته الشرائية، أو يقيسوا رد فعله على ما يقدمونه.

الإشكال الأخطر يتعلق بأن معظم عمليات التمويل لتلك الوسائل تستهدف إبقاءها في النطاق المناطقي الشديد المحلية.

في الغالب الأعم لا يتم تقديم دعم لوسيلة إعلام سورية جديدة تستهدف بثاً أو توزيعاً أو تطور محتوى على المستوى الوطني، إذ يُراد لتلك المشاريع أن تعمل في إطار مناطق محدودة أو "كانتونات" جغرافية أو طائفية.

وإن الهجمات الإجرامية التي يشنها النظام على المدنيين، وتلك التي تقوم بها بعض الجماعات التكفيرية تجعل من الصعب إيجاد شروط صناعة قابلة للاستدامة على المستوى الوطني، لكن تكريس الوضع الانفصالي، والتمركز المناطقي أمر خطير كذلك.

فثمة فرص في صناعة الإعلام السوري البديل، لكن تلك الفرص لن تتعزز إلا حين تكرس الصناعة مهنيتها واستقلاليتها.

* كاتب مصري