أتذكرُ بغداد دون ذريعة. بل أحيا فيها على هواي، حين تستغرقُني هي.

يتلاشى حاضري هنا ويحتلُّني ماضيها النابضُ فيَّ؛ ومعاً نحيا على هوانا.

Ad

حينها نندفع باتجاه مشاركةٍ من أبي حيان التوحيدي في «رسالته البغدادية»، ففي الكتاب تكمنُ روحُ الماضي. نقرأُ، نضحك، نأسى كبغداديين على الحقيقة، لا كمن يتبغدد. وأبوحيان يُحسن فهم ذلك.

لدي نسخة من الثمانينيات لـ»الرسالة البغدادية»، نشرتها مكتبة المثنى عن طبعة هيدلبرغ، التي حققها المستشرق آدم متز عام 1903. كان عنوانها آنذاك «حكاية أبي القاسم البغدادي». ما كنت أحسن قراءة إلا شذرات منها. فالمستشرق انصرف إلى التحقيق الدقيق، لا إلى الشرح الوافي، حتى جاء الاستاذ عبود الشالجي في الثمانينيات ليحققها ويضفي عليها الشروح الوافية. هذه النسخة هي التي يسّرت عليَّ استعادة بغداد، لا بغداد التي عشتها قبل رحيلي فقط، بل تلك التي عاشت دوني في الزمن الغابر. أبوحيان وعبود الشالجي، وهو بغدادي عريق، يوحدانهما في ذاكرتي، ويجعلان الأخيرة ذاكرة فردية وجمعية في آن. لأن التوحيدي، وهو يتحدث على لسان مؤلف الرسالة المزعوم محمد الأزدي، أو على لسان بطل الرسالة المُتخيَّل أبي القاسم البغدادي، يترك مهمة توحيد بغداد التاريخ وبغداد الحاضر للقارئ النابه، على أن يكون بغدادياً. لأن هناك حركة، خفية عن عين غير البغدادي، تصدر عن أعضاء الجسد، نسميها اليوم لغة الجسد، تعبر عن عاطفة أو مقصد. ولأن هناك طريقة في صياغة الجملة، وطريقة في لفظها، تقصد إلى معنى بعينه، ولأن هناك مفردات ومسميات محلية ما كانت تستخدم خارج العراق، أو ربما خارج بغداد ذاتها، كل هذه العناصر تكاد تكون هي هي في البغداديْن، التاريخية والحديثة.

دعك عن حقيقة أن التاريخية أوسع أفقاً حضارياً، وأرحب في حرية الفرد، وأجرأ تعبيراً في الكتابة. المحقق الشالجي يلاحق التوحيدي، ويوضح معظم هذا في هوامشه.

كان التوحيدي واسع الثقافة، ولقد سمي فيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة، لأنه لا يعتمد العقل وحده إذا ما فكر، ولا يعتمد العاطفة وحدها إذا ما شعر. إنه يفكر بقلبه شأن الشاعر الكبير. لذلك يبدو سريع الاحتراق، وعميقه في آن. الارتياب يغذي كلمته بالدم إذا ما تسامى متأملاً. اسمعه في «الإشارات الإلهية» يقول: «إن ذكرناك أنسيْتَنا، وإن أشرنا إليك أبعدتنا، وإن اعترفنا بك حيرتنا، وإن جحدناك أحرقتنا، وإن توجهنا إليك أتعبتنا، وإن ولّينا عنك دعوتنا، وإن تركناك أزعجتنا، وإن توكلنا عليك أكلفتنا، وإن فكرنا فيك أضللتنا، وإن انتسبنا إليك نفيتنا...». والارتياب يغذي كلمته بالدم إذا ما انحدر إلى لسان العامه أيضاً. اسمعه يقول في «الرسالة البغدادية» على لسان بطلها عن مائدة الطعام في أصفهان: «إنما أرى مائدة بلا خلٍّ ولا بقْل، كشيخٍ بلا فهم ولا عقل... يأخذُ أحدُكم قطعة اللحم بيده، ويجذبها بأسنانه، فترشش على وجهه ولحيته وثيابه، ممزوج ذلك اللحم بمرق، لو أُجري بها زورق لسار، تغوص يد الإنسان فيها إلى مرفقه حتى يجدَ اللحم...».

هو في كليهما هو. وكذلك الفيلسوف المحاجج في «الامتاع والمؤانسة»، والمقارع بكمِّ يده في «مثالب الوزيرين». وإساءة فهمه سهلة على الناس، في عصره، وفي كل العصور التي طمرته بالنسيان. ما من نثر عربي قديم توحّدَ فيه الإنسان والأديب كنثر التوحيدي. حين انتخب أبا القاسم البغدادي لحكايته (التي تتم في يوم واحد «من أوله إلى آخره») أعطاه كل صفات السوء، التي تؤهله لكل ألفاظ السوء. إنه يريد أن يُفرغ عبرها قيحه الممرور، كما أفرغ في «الإلهيات» فيض روحه الممرورة.

كان يبحث عن الفضيلة وافتقدها، لذا فغربته وجودية مطلقة. مقالة عبدالرحمن بدوي في مقدمة تحقيقه لـ«الإشارات الإلهية» رائعة في إضاءة هذا الجانب.

تدفق نثره في تعداد محلات بغداد، وأنهارها، وأطعمتها، وفواكهها، وتمورها، وخماراتها، ومزة الشاربين فيها، وأزيائها وعطورها، ومغنياتها... إلى ما لا يُحصى من تدفق المسميات المنسية اليوم، هو تدفق موسيقي بالغ الغرابة، حتى في الشتائم بالغة البذاءة. هذا التدفق الموسيقي يخفي تحت غلالته حباً عجيباً لبغداد:... معشوقة السكنى... والغاية القصوى.