«تذكرة وحيدة للقاهرة»... لوحة بديعة عن مصر القديمة

نشر في 31-07-2016
آخر تحديث 31-07-2016 | 00:00
No Image Caption
« تذكرة وحيدة للقاهرة» رواية صدرت حديثاً للروائي المصري أشرف العشماوي عن دار المصرية اللبنانية بالقاهرة، تستعرض رحلة عجيبة على مدار خمسين عامًا تقريبًا يسافر فيها البطل - النوبي المولد والأصل - إلى القاهرة في الأربعينيات من القرن الماضي، ويفاجئنا برحلة إنسانية شديدة التشويق والإثارة، ليس ذلك فحسب إنما يقطع لنا تذكرة سفر إلى القاهرة القديمة أيام الملك فؤاد، مرورا بعهد فاروق وأيامه الأخيرة، ثم ينقلنا ببراعة لعصر ثورة يوليو وتحول المجتمع المصري وانقلابه رأسا على عقب حتى نهاية عصر السادات.
يحكي العشماوي عن شخص عادي جدا لكنها حكاية غير عادية، لنكتشف أننا، مثل بطل الرواية، مهمشون طالما لا نملك قرارنا .. يسرد المؤلف أحداثه الشائقة بلغة جزلة شاعرية راقية، تسمو بالقارئ وتحلق به بعيدا في زمن جميل، ورغم مشقة الرحلة إلا أن السرد واللغة الغنية بالمفردات والثراء اللغوي وروح السخرية في كتابات العشماوي... كلها أمور جعلت من الرحلة أمرا ممتعاً،

تحمل الرواية من الخطوط الدرامية الكثير والكثير وتبدأ في حبس أنفاسك أثناء القراءة منذ الجملة الأولى أو عتبة النص، حيث يبدأ العشماوي روايته بسباق الخيل الملكي بنادي الجزيرة عام 1933، ليظهر بعده بطلا الرواية تباعاً، عجيبة سر الختم وبدر شفيق المغازي، الأول نوبي مهمش قادم إلى القاهرة للعمل بنادي الجزيرة والآخر ابن طبقة أرستقراطية وسليل عائلة باشاوات وإقطاعيين، فيظهر البطلان كحصاني السباق طوال الأحداث، لكن من له الغلبة في النهاية، تلك هي المفاجأة والتساؤل الذي يطرحه العشماوي بخبث ولا يجيب عنه.

متعة ودهشة

حسنا فعل العشماوي بأن ترك النهاية مفتوحة للقارئ، ورغم التشويق إلا أنه لم يكن على حساب جماليات اللغة ولم يكن مفتعلا على الإطلاق، إنما جاء بحساب وبميزان دقيق متوازن، مستخدما تكنيك روائي عليم مع ضمير متكلم للبطل النوبي صاحب المشاهد الأكبر في الرواية، ليقضي على أية ذرة ملل قد تتسرب أثناء السرد الطويل الممتد قرابة خمسمائة صفحة تقريباً، لكنها ولا شك متعة قراءة حقيقية لأديب يحفر مكانته بعمق وبروية ودون جلبة مصطنعة أو شهرة بائسة أو انبطاح لناقد، روائي حقيقي يحترم القارئ ويقدم له جديداً في كل رواية مستلهما تلك المرة من التراث النوبي عن التماسيح، وظفه ببراعة وغرائبية احترافية مع تضفير مشاهد لخيال المآتة في مكانها تماما، لتبدو فصول الرواية أشبه بلوحة فن تشكيلي رائعة التكوين، تنتصر لأبناء النوبة المهمشين في القاهرة والمهجرين من أرض الذهب.

لا يزال العشماوي قادراً على بعث الدهشة وإثارة التساؤلات وجذب القراء لرؤية أبطاله بكل وضوح أمام أعينهم، في كل مشاهد الرواية من سباق الخيول ونادي الجزيرة، وخلف أسوار شاطئ المنتزه بالإسكندرية وعلى كورنيشها، وفي حواري عابدين وشوارع القاهرة القديمة، ووسط البلد وتراس فندق شبرد الشهير، وداخل حلقات الذكر بزار الكودية كوثر وبعيدا على الحدود خلف الخزان القديم بأسوان، ولحظة إلقاء كتل السد العالي بنهر النيل منتصف الستينيات، لحظات فارقة بالنوبة وقت التهجير تذرف معها الدمع، ثم تتعالى ضحكاتك رغما عنك مع عجيبة وقريبه عوض بنادي الجزيرة، لتجد نفسك بعدها تبكي على مسكة سر الختم زوجة عجيبة الجميلة وهي تلهث معه بحثا عن ابنه الصغير الذي لم يره، ثم تسافر معه إلى ربوع سويسرا جنة الله في الأرض لتعيش غرائبية مكتوبة باحتراف مع نور الدين الشمسي الذي التقاه هناك، حتى يقطع لك المؤلف تذكرة وحيدة للعودة إلى القاهرة لتتلقى مفاجأة نهاية الرواية البديعة.

في هذا النص اللافت فاجأ العشماوي الجميع برواية مختلفة وملحمة إنسانية قد تكون صادمة للبعض، لكنها حقيقية رغم خيالها وربما هنا يكمن سر تفردها.

للروائي أشرف العشماوي، 5 روايات: «زمن الضباع»، «المرشد»، «البارمان»، «تويا» التي وصلت إلى القائمة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية البوكر، «كلاب الراعي»، فضلا عن كتاب وثائقي حول سرقة الآثار المصرية وتهريبها بعنوان «سرقات مشروعة»، وترجم بعض أعماله إلى لغات أجنبية.

back to top