هل كتاب «القصيدة المغناة» محاولة للدفاع عن هويتنا في مواجهة طغيان العولمة؟

بالطبع، هو محاولة للعودة إلى الأصل، فأصل الغناء العربي نشأ فصيحاً، واستمر كذلك حتى عصر ليس ببعيد، وهو كتاب يحتوي نصوصاً عربية متنوعة، وعبر عصور مختلفة ليلائم الذوق العام، ويواجه الداعين إلى العامية بشكل مباشر ولافت في آن.

Ad

لماذا اخترت نموذج القصيدة المغناة تحديداً؟

لأنه النموذج الأفضل من حيث ثلاثية الإبداع: الكلمة واللحن والصوت، ولأنه الوحيد القادر على الولوج إلى المقاهي وغرف المعيشة، والمصانع، والشوارع، من دون استئذان.

من ناحية أخرى هذا النموذج قادر على البقاء والانتشار ويتفاعل مع الثقافات المختلفة في عصور الأدب العربي.

ما الأسس والمعايير التي اخترت من خلالها القصائد المغناة في كتابك؟

ثمة معايير فنية راعيتها عند الاختيار، من بينها أن تكون القصيدة ذات صدى واسع في الانتشار، وذات نسق فني جمالي يشي بمكنونات القلوب، فيصبح تأثيرها على المتلقي كالسحر، ومنها أيضاً أن تكون القصيدة المغناة غير غامضة ولا تحتمل اللبس والخلاف، وأن تكون قدر المستطاع مراعية للذوق المجتمعي العام، فلا غلو فيها، فضلا عن التنوع بين المدارس الشعرية المختلفة، فشوقي له اتجاه كلاسيكي معروف، وشعر الرباعيات شكل لافت في أدبنا العربي، والمرواني والهادي آدم يمثل شعرهما اتجاهاً متقارباً ومن بيئتين مختلفتين، وشعر نزار يمثل كياناً وحده، أما شعر أبي فراس الحمداني فله مدرسة فنية محافظة.

كذلك وضعت مقدمة طويلة نسبياً للوقوف على الغناء في البيئة العربية، مروراً بالموشحات قديماً وحديثاً، وكذا لغة التحليل التي ارتضيتها، معرفا القصيدة المغناة بأنها نص شعري توافرت فيه عناصر الغناء، منها سهولة اللفظ، انسيابه، رشاقته، وطبيعة القالب الموسيقي المختار، فقد تجاوز هذا النص الذوق الخاص إلى الذوق العام، بغية إحداث حالة نفسية قوامها الإمتاع والإقناع، وليس بالضرورة أن يكتب النص لغرض الغناء، بل يمكن للمغني أو المغنية إجراء تعديلات في النص الأصلي، لأسباب فنية أو دينية أو أخلاقية، أو ذوقية أو سياسية أو اجتماعية حسب رؤية المؤدي نفسه، لا حسب الشاعر المبدع الأصلي للنص، وفي بعض الأحيان يكون برضا الشاعر نفسه أو بغير رضاه.

قارنت بين الشعبية الكبيرة التي تحظى بها قصائد نزار والشعبية الأقل لقصائد المتنبي، فهل المقارنة تبدو واقعية مع اختلاف الزمان والذوق العام للمتلقي؟

أشرت إلى أن شعر نزار الذي قرأه جمهور أكبر من شعر المتنبي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، فعن طريق الغناء وتوازن الصيغ، وسهولة الألفاظ استطاع شعر نزار أن يلج البيوت من أبوابها ونوافذها كالشمس، أما شعر المتنبي، وهو شاعر كبير لم تنجب العربية مثله حتى الآن، فإن شعره لم يغنَ، على الرغم من تواجد المتنبي في بلاط الحكم، وقربه الشديد من سيف الدولة، فإن شعره الغنائي ضئيل جداً مقارنة بشعر نزار الذي تردد كثيراً على حناجر المطربين والمطربات، فالمقارنة من هذه الزاوية فقط، وليس تقييماً لشعر كليهما إذْ تبدو المقارنة في غير محلها.

هوة سحيقة

ما أسباب الهوة التي نراها بين النخبة المثقفة وجمهور الشعر والأدب؟

يعاني جمهور الشعر والأدب اليوم بسبب ميل بعض النقاد إلى تغريب اللغة، والاعتماد على مصطلحات أجنبية لم يتفق أحد منهم على ماهيتها، فغدا بعضهم ممسكاً بهذه المصطلحات، أو قل متصيداً لها، فيقتلعها من جذورها الأوروبية ليزرعها في بيئة عربية، من دون أن يبذل جهداً في ترجمتها ترجمة صحيحة، فتبدو لنا كما لو كانت استعراضاً لثقافة الناقد ومعرفته باللغة الأجنبية، فينتج منها القراءة السائدة لدى بعض النقاد العرب، وفي النهاية يتبين أن النقد العربي الحديث أقرب إلى التناص المكشوف مع النقد الأوروبي الحديث، وليس في نقدهم سوى بعض التعليقات الانطباعية، بل هي مجموعة من الأفكار الأوروبية المترجمة، فضلا عن اسباب أخرى منها المبالغة والتهويل من شعراء ليسوا على قدر المكانة التي يضعهم فيها النقاد، الشللية والمصالح المتبادلة بين الشعراء والنقاد، وغير ذلك كثير في الساحة الأدبية والنقدية، لذا عمدت إلى كتابة التحليل بأسلوب جلي ليقرأه طلاب المدارس قبل طلاب الجامعات، وطلاب الجامعات قبل طلاب الدراسات العليا، وطلاب الدراسات العليا قبل الطلاب المتخصصين الأكاديميين، هكذا أردت لنفسي أن يكون للأدب جمهور عريض، فقط أردت أن أشير إلى لغة التحليل، وبساطتها، غير عابئ باللغة المعماة التي تزيد الهوة بين النخبة المثقفة والجمهور العريض للشعر والأدب.

هل قلة اهتمام المطربين العرب حالياً بالقصائد المغناة دليل على تراجع الذوق العام للمتلقي؟

الجمهور العربي جمهور واعٍ، مثقف، ذواقة، رنم «الأطلال وأراك عصي الدمع والنهر الخالد وقصة الأمس» وغيرها في المقاهي والشارع العام وفي البيوت والحدائق، وإن كان اعترى المطربين وكُتاب الكلمة وصناع اللحن بعض الوهن فسرعان ما يتلاشى ذلك لقوة القصيدة المغناة ومدى قدرتها على الانتشار في المجتمع العربي، ومن ثم ليس قلة اهتمام المطربين العرب بالقصائد المغناة دليلاً على تراجع الذوق العام، فديوان الشعر العربي لم ينضب، والمطربون قادرون على استنباط القصائد التي تصلح للغناء.

وليس من أولويات الكتاب اتخاذ كل القصائد المغناة التي نالت إعجاب الناس والنقاد على السواء، فاتخذت لشوقي والمرواني وأبي فراس ونزار والخيام وإقبال وجرداق نماذج للقصائد المغناة بغض النظر عن روائع لناجي ورامي وصالح جودت ومحمود حسن إسماعيل وغيرهم مما لم يتخذه البحث، وكان من أكبر أولوياتي اتخاذ نماذج راقية ثم تناولها بأسلوب جلي واضح مبتعداً عن الطلاسم واللوغريتمات الغربية والغريبة التي ملأت ميدان النقد الأدبي والدراسات الأدبية في معظم الأقطار العربية.

إلى أي مدى أثرت القصيدة المغناة في وجدان الضمير العربي؟ وما أكثرها تأثيراً من وجهة نظرك؟

للقصيدة المغناة سحر يقارب سحر البيان الذي وصفه الحديث الشريف: إن من البيان لسحراً، فقدرتها على النفاذ والانتشار كبيرة للغاية، لما تلامسه من ميول فطرية محببة لدى العربي الذي نشأ وتربى على صوت اللحن والموسيقى منذ القدم، كما أنها تقوم بدور تربوي رفيع بطريق غير مباشر، وربما كانت بديلاً افتراضياً لدور المدرسة والجامعة والمعاهد التعليمية، فالموسيقى والغناء لهما تأثير كبير ولافت على الإنسان، والأكثر تأثيراً – فيما أرى- هي القصيدة المكتوبة باللهجة العامية كقصائد أحمد رامي، ومرسي جميل عزيز، وعبد الرحمن الأبنودي.

كيف ترى تأثير العولمة على هويتنا العربية والإسلامية في الوقت الراهن؟

يجب أن نقر أولاً بأن العربية لغة عالمية، ولغة تضرب بجذور ثابتة في التاريخ الإنساني، وإن ما يعانيه الناطق بها هو من جراء التقدم المذهل للتكنولوجيا وليس نابعاً من تقصير في وجدان اللغة ذاتها، فاللغة التي حملت ألفاظ ومعاني كتاب الله تعالى حريّ بها أن تحمل أفكار ومعاني ذلك التقدم المدهش في وسائل التكنولوجيا المتنوعة، ومن هنا فإن تأثير العولمة على هويتنا الثقافية والعربية كبير، لولا احتفاظ هذه الثقافة بمقومات راسخة تجعلها قادرة على مجابهة أي تأثير خارجي.

ما المشروع الأدبي الذي يشغلك حالياً؟

ثمة مشروعان كبيران يستحوذان على تفكيري هذه الأيام: الأول كتاب موسوعي ضخم يتناول شعراء مصر المعاصرين على غرار «الشعر المصري بعد شوقي» لمندور، والثاني: كتاب ضخم أيضاً تحت عنوان «الظاهرة الأدبية»، يتناول أبرز الظواهر الأدبية في الشعر العربي منذ الجاهلية وحتى العصر الحديث، مبتعداً عن الظواهر النمطية المستهلكة.

«أمواج البحر»

يميل الناقد الأدبي الدكتور أحمد فرحات إلى العزلة والاستماع إلى الموسيقى، ولا سيما القصائد المغناة، للوقوف على مفردات الجزء الثاني من كتاب القصيدة المغناة الذي ينوي إصداره قريباً.

ويعتبر فرحات، الحاصل على دكتوراه في الأدب في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، أنه محظوظ لمجاورته نهر النيل في القاهرة وشاط البحر في جدة بالمملكة العربية السعودية حيث يعمل حالياً أستاذاً مساعداً للأدب العربي في كلية الفارابي له إصدارات من بينها «المصنفات في الشعر العربي» و{الخطاب الشعري في المدينة المنورة «و{الأدب العربي في القرن العشرين».