لا أدري لماذا لم أزر اسكتلندا من قبل، بالرغم من إقامتي في لندن التي لا تبعد عنها أكثر من ساعة ونصف الساعة بالطائرة، ومع هذا لم أفكر في زيارتها، ودائما أؤجلها إلى وقت آخر لا يأتي أبدا، لكنني في هذا الصيف قررت الذهاب إليها، وحين شاهدتها وقعت بغرامها في الحال، فهي مدينة تُعشق من النظرة الأولى، ولا يمكن نسيانها.زيارتي كانت قصيرة ولم تتجاوز أسبوعا مع الذهاب والإياب، لكنها كانت أياما حافلة بالمتعة والبهجة مع قلة الراحة والتعب بسبب التنقل بين مدنها وجبالها وتلالها وحدائقها، لم تكفها الأيام القليلة التي قضيناها فيها، فكل مدينة تستحق وقتا أطول لاكتشاف كنوزها، ومع هذا استطعنا أن نقتطف من ثمار هذه الجنة بهجة لا يمكن مقارنتها بأي مدينة أخرى.
اسكتلندا مدينة شعب الفايكنج سابقا، هي عبارة عن جنات على مد النظر تلتف حولها المئات من الجزر والبحيرات والأنهار والخلجان المتشابكة، تشكل مياها وفيرة تكفي الكرة الأرضية كلها، فمثلا أكبر بحيراتها المسماة "لوخ نيس"، قال عنها الدليل إنها تستطيع أن تحتوي كل سكان الكرة الأرضية وتفيض عنهم من شدة عمقها، فهي أعمق من بحر الشمال، هذه البحيرة وحدها تكفي لإرواء قارة إفريقيا التي تعاني عطشها الدائم، اسكتلندا خزان الماء لكرتنا الأرضية.وسأبدأ بالعاصمة "أدنبرة" التي تتميز ببناء تراثي تاريخي بمعمار كلاسيكي من طراز "الكوثيك" مع لمسات عصرية لم تمثل خروجا أو نشازا عن تراثها الرائع العظيم، لذا بقيت المدينة القديمة كما هي، تحفة لم تعبث بها أيادي العصرنة والحداثة وفساد التغير، وبقي شارعها "الرويال مايل" بتصميمه التاريخي فرجة ومتعة للسائحين مع هذه المطلات المشرفة على الساحات والحدائق العظيمة والخضرة التي تكسو كل الأمكنة بهوائها الطازج النظيف غير الملوث بأي دخان كان.أدنبرة المدينة القديمة وأدنبرة المدينة الجديدة لا يوجد اختلاف شاسع بينهما، بسبب المحافظة على التناغم والانسجام بروح الشكل البنائي، لذا لم ألاحظ ذرة تنافر بينهما.قلعة أدنبرة القروسطية من أجمل القلاع وأكبرها كما صنفتها "اليونسكو"، وكانت سكنا للملكة "ماري من سكوتلند" التي أعدمتها الملكة إليزابيث الأولى حين لجأت إليها في لندن، زوار القلعة بالملايين، لم أر بمثل هذا الاحتشاد إلا في أيام العمرة بالعشر الأواخر من شهر رمضان، وهذا دليل على اهتمام الغربيين بالثقافة السياحية لا الاستهلاكية.كنيسة "هاي كيرك سانت جيلز" من أقدم كنائس العالم وأجملها من الخارج والداخل، وهي كاتدرائية اسكتلندا الرئيسية.في ميناء ليث يربض اليخت الرويال البريطاني العظيم "بريتانيا" الذي أحيل إلى التقاعد، وبات مفتوحا للسياح للفرجة أو لتناول غداء أو عشاء فاخر، بحسب الطقس الملكي الذي كان.أدنبرة مليئة بالمتاحف والغاليريات الفنية، وكنت أتمنى زيارة "الناشونال ميوزيم"، حيث ترقد فيه الجثة المحنطة للنعجة "دوللي"، أولى تجارب الاستنساخ الحيواني، لكن الوقت لم يتسع لزيارته.عموما، مدينة أدنبرة تهتم برعاية الحيوانات وتحسين جيناتها وتطويرها، لذا بات لديهم إنتاج حيواني مطور لا يشبه غيره.وتوجد تماثيل لكلب صغير في شوارعها، قال الدليل عنه إنه أخلص وأوفى كلب، فقد كان يبيت بالقرب من قبر صاحبه الضابط الذي رعاه مدة سنتين قبل موته، وعاش الكلب مدة 20 سنة بعد وفاته ينام يوميا عند قبره، لذا عندما مات الكلب دفن بالقرب من قبره، وعملت له تماثيل في شوارع المدينة.عدد سكان أدنبرة نصف مليون شخص تقريبا، 54 في المئة منهم حاصلون على الشهادات الجامعية، وهذا يعكس حجم ثقافة هذا الشعب الهادئ اللطيف السهل في التفاهم والعشرة.مدينة مريحة نظيفة منبسطة، مواصلاتها رائعة؛ سواء بالحافلات أو بالقطارات أو بالترام أو بالطيران الداخلي أو بالتاكسي، وهو أرخص بكثير عن لندن وأكثر تهذيبا عنها.المدينة الثانية "غلاسكو"، وهي ثاني أكبر مدينة في اسكتلندا أيضا لها مواصفات تشبه كثيرا العاصمة أدنبرة، من حيث عدد المتاحف والمعارض الفنية التي لم أتمكن من مشاهدتها، لكن ما لاحظته هو أنها أكثر شبابية عن أدنبرة، أقصد السياح الشباب فيها، اكتظاظ غير عادي للشباب في شوارعها، ربما لأنها من أكبر مدن التسوق في أوروبا، بحسب عدد المولات والمحال والشركات الكبرى للأزياء والماركات العالمية التي فيها.
توابل - ثقافات
اسكتلندا... جنة الله الأرضية (1-2)
01-08-2016