«حركة النور»... مدخل الإسلاميين الأتراك (3-3)

نشر في 05-08-2016
آخر تحديث 05-08-2016 | 00:05
 خليل علي حيدر لم ينج النورسي بأصله الكردي من تجاذبات الصراع القومي مع تركيا بين الأتراك والأكراد، وقد "حاولت المجلة القومية الكردية (Yeni Zemin)، بشكل تجريبي أن تقدم النورسي باعتباره (قومياً كرديا) من خلال استحضار كفاح النورسي الشاب ضد الدولة التركية. وجادل محرر (Yeni Zemin)، محمد ميتينر، قائلا: "إنني أحب سعيد الناشط الذي كان يناضل من أجل الاعتراف بالهوية الكردية. لقد كان سعيد خطوة كبرى في الفكر الإسلامي، لكن مساهمته لم تنته هنالك.

ويرى ميتينر، الذي كان يشغل منصب مستشار كردي سابق لطيب إردوغان، يرى الإسلام وسيلة لتحدي الدولة ولفتح مساحات سياسية للتعبير عن القومية الكردية، وتتم عملية الاستغلال الاثني للنورسي من خلال القراءة الانتقائية لكتاباته وكفاحاته الحياتية، فبعض المفكرين الأكراد يجادلون بأن الدولة كانت تضطهد النورسي دائما ليس بسبب إسلاميته فقط، وإنما بسبب هويته الاثنية الكردية كذلك، وعلى الرغم من رفض أغلب الجماعات النورسية لهذه المحاولات لتحويل النورسي إلى قومي كردي، فقد ساهم صعود كل من القوميتين التركية والكردية في صنع جماعتين منفصلتين إثنيا بين النورسيين".

(الإسلاميون والسياسة التركية، محمد حقان يفوز، ص340).

الدرسخانة

وثمة مؤسسة تُدعى "الدرسخانة" ذات أهمية خاصة في "حركة النور"، عبارة عن اجتماع لأعضاء الجماعة لتدارس "رسائل النور"، وهذه المؤسسات ليست فقط مراكز لقراءة أعمال النورسي، فالدرسخانات كذلك أماكن لإعادة التأكيد على هوية إسلامية خاصة وتبادل الآراء في القضايا السياسية.

ويقول الباحث في الكتاب نفسه، إنه خلال عمله الميداني قام بزيارة الكثير من الدرسخانات في تركيا وألمانيا، ويضيف: "ولأجل فهم أوضح لطريقة عمل وأهمية الدرسخانات النورسية المعاصرة في تركيا، سأقوم بوصف زيارة لإحداها في حي تاميرهانة بإسطنبول. دعيت لحضور إفطار رمضاني في درسخانة مقامة في شقة بالطابق السادس بأحد الأبنية، وقد كانت الشقة المكونة من ثلاث غرف نوم وغرفة جلوس مشتركة بين ستة مقيمين دائمين جميعهم من الطلبة، وكان الحضور حوالي (20 شخصا)، أغلبهم من ملاك تجارات التجزئة الصغيرة، ومع أستاذ بالجامعة متخصص في الهندسة الميكانيكية، وكان الجميع يعرفون بعضهم، وفي أثناء حواراتهم الأولية، تركز أغلب الكلام على الحالة الاقتصادية والتجارية لتركيا، فهذه الدرسخانات ليست بالتالي مقيدة بالقضايا الدينية، وإنما هي أيضا مراكز للتواصل التجاري وتبادل المعلومات حول السوق، وبعد حوار دام لنصف ساعة، انضم الجميع لتناول طعام الإفطار". (ص 323).

وبعد الإفطار، قام المفسر، بعد أن أمّ المصلين، بقراءة عملٍ "نورسي"، وشرح معاني الكلمات العربية والفارسية والتركية (العثمانية المهجورة). ويضيف الباحث: "وفي أثناء الدرس الذي حضرته، تحول المفسر النورسي إلى اختصاصي بيئي فقال: إن جوهر الإسلام هو التوازن والعدالة في البيئة والمجتمع، ثمة عدالة في هذا العالم وتوازن بين الطبيعة والمجتمعات الإنسانية. وهذا التوازن لا يمكن الحفاظ عليه إلا إذا تمت المحافظة على توازن التعايش بين بني البشر والطبيعة. إن الله لم يخلق شيئا عبثا أو زائدا في هذا العالم، كل شيء له وظيفة، على الرغم من أننا قد لا ندرك تلك الوظيفة، وهذا أيضا يشير إلى قوة الإله، إننا ما زلنا لا نعلم ما يكفي عن مكان كل حيوان وحدث طبيعي خلقه الله. إن النظام في الطبيعة يثبت وجود إله، ويقدم النورسي قوة الإله إلى واجهة الصورة، ويجدد إيماننا، إنّ الشيوعيين والملحدين يرون الطبيعة هي مصدر القوة، لكن النظام في الطبيعة يشير إلى وجود إله متعال".

ويسلط الباحث يفوز- وهو أميركي من أصل تركي- الضوء على دور "الدرسخانات" في الجماعة النورسية، في إدخال المزيد من أفرادها إلى الحياة التجارية والاقتصادية إلى جانب الحياة الدينية والحركية، فيقول:

ديانة... وتجارة

"إن من الجلي أن الدرسخانات أكثر من مجرد مؤسسات دينية، فهي تقوم أيضا بدور قنوات تجارية يتم من خلالها التوظيف، بل توفير رؤوس الأموال للاستثمار بين الأقران من النورسيين، كما أن لهذه الدرسخانات أيضاً بعداً طبقياً قويا، فالأشخاص الأكثر ثراء يجتمعون عادة في درسخاناتهم الخاصة بأحياء الطبقة الراقية، وعادة ما تتفاوت تفسيرات رسائل النور بحسب التكوين الطبقي لكل درسخانة، وقد كانت التجمعات النورسية والنقشبندية التي ازدهرت في الثمانينيات والتسعينيات قد ازدهرت في أوساط صغار التجار والمجموعات المهنية النامية في تركيا". ويمضي الباحث في تناول المجالات القانونية والتجارية والاستثمارية التي تستفيد منها الجماعة فيقول: "إن ثمة أسبابا عديدة لهذا النمو المتزايد للشبكات الإسلامية التقليدية والحديثة. لقد ساهمت إدارة الدرسخانات النورسية بأسلوب الأندية هذا، باعتبارها مراكز لتبادل الاستشارات القانونية والتجارية، في انتشار شبكة الدرسخانات النورسية في أنحاء تركيا، خاصة في المدن الكبرى التي تمر بحالة من النمو الاقتصادي".

ويبين "د. حقان يفوز" طبيعة البيئة التي يجري فيها النشاط الاقتصادي ونوعية المواد التي يتم توزيعها كذلك: "إن الدرسخانات أكثر انتشارا في المناطق الصناعية منها في المناطق الريفية، أو مجتمعات الطبقة الكادحة، والنورسيون في غالبهم من خريجي الجامعات ممن يعملون في شركات صغيرة، أو يملكون أعمالا تجارية صغيرة، وقد أشارت لقاءاتي في أرزوروم وإسطنبول وقيصري وقونيا إلى أن الوظيفة الاجتماعية للدرسخانة تميل إلى جذب التجار والمهنيين، الذين يحققون منافع اقتصادية من خلال المحافظة على عضوية مثل هذه الجماعات.

ومنذ أوائل التسعينيات، على سبيل المثال، سمح هذا التضامن الاجتماعي الاقتصادي لشبكة الدرسخانات النورسية بالهيمنة على توزيع بعض المنتجات المنزلية مثل المنظفات والأغذية المعالجة والمنسوجات، ومن خلال هذه الشبكات النورسية ذات الجذور الإسلامية والشكل الاجتماعي، سعى النورسيون إلى إقامة شعور اجتماعي داخل الدولة العلمانية، وأصبحت الدرسخانات النورسية هي المؤسسات التي تعمل على دمج الفرد في المجتمع". (ص 326).

ويلخص الباحث دور "الدرسخانة" مع التيار الإسلامي التركي فيقول: "وباختصار فإن الدرسخانة عبارة عن ملتقى للأنشطة والتفاعل الثقافي والاجتماعي. وحيث إن الدرسخانات تعد أماكن مهمة، حيث يلتقي النورسيون، فهي تصبح مواطن لاستعراض الثروة والمستوى الاجتماعي، فأي درسخانة يواظب النورسي على الحضور فيها تؤثر على مكانته وتعكس موقعه في المجتمع النورسي الأكبر، إن هذا النظام الإسلامي للأخلاق، والذي ينبثق من بنية الدرسخانة، يؤكد على كون الحياة حديقة للإيمان ينبغي تعهدها، والعمل الجاد والسلوكيات الحسنة تمثل مميزات للأخوية النورية الجماعية". (ص 330).

موقف باحث إسلامي

تناول الباحث الإسلامي التركي د. سهيل صابان، أستاذ مساعد التاريخ بجامعة الملك سعود بالرياض، وأحد خريجي حركة النور في كتابه "تطور الأوضاع الثقافية في تركيا من عهد التنظيمات إلى عهد الجمهورية 1839-1990"، بيروت 2010، فيورد في باب الانتقادات الموجهة لجماعة النور ومؤسسها بديع الزمان سعيد النورسي، فيقول "إن بعضها كان مغرضا"، وقد كان مما وجه إليه مثلا، يقول، "إنه كان يحب الاستعلاء، ولذا فقد كوّن جماعة أظهرته في مستوى القادة والملوك"، وإن رسائله "تضم كلمات مبهمة تشجع على التمرد والفوضى والإرهاب"، وينفي عنه د. صابان هذه التهمة، أما المأخذ الثالث فهو "أنه كان ينوي إقامة دولة كردية بمساعدة من الإنكليز"، وينفي هذه التهمة كذلك.

كما وجه معارضو الشيخ بديع الزمان النورسي وجماعته أن هذه الجماعة "قامت بالدفاع المستميت عن حزب العدالة، مع وجود حزب إسلامي على الساحة، هو حزب السلامة الوطني، الذي أصبح اسمه حزب الرفاه، كما أن كثيرا من أتباع الاستاذ بديع الزمان ينظرون إليه نظرة كان فيها شيء من العصمة، وانطلاقا من هذا المبدأ فقد وقعت جماعة "يني آسيا" بشكل خاص في خطأ آخر، هو اعتبار الاستاذ بديع عصره ووحيد دهره، وأنه لم ينشأ في هذا العصر أحد مثله، وأن العلاج الذي يصفه لأمراض العالم الإسلامي يعدّ علاجا فعالاً لا مثيل له، ومما يترتب على ذلك- حسب ادعائهم- هجر جميع المؤلفات والكتب سوى كتب الاستاذ".

ولهذا فمعظم جماعات حركة النور، يقول النقاد، يرفضون الاطلاع على مؤلفات بعض الدعاة، ويمنعون المنتمين إليهم من الاطلاع عليها! ولهذا لا يبدون اهتماما بمستجدات الأمور والأوضاع الثقافية، ولا يطالعون حتى الصحف والمجلات إلا على نطاق ضيق، بسبب "الاعتقاد أن رسائل النور تعد بمنزلة أكبر مكتبة إسلامية، يجد فيها القارئ والباحث والعالم والمتعلم بغيته، دون حاجته إلى غيرها من الكتب".

ولعل حال جماعة النور في هذا تشبه حال الكثير من أتباع الجماعات الإسلامية في دول أخرى!

back to top