السيد المذيع الفيلسوف

نشر في 07-08-2016
آخر تحديث 07-08-2016 | 00:07
 ياسر عبد العزيز كلما تراجعت السياسة في مصر ازدهر التلفزيون؛ إذ يعوض الناس ما يفتقدونه في المؤسسات السياسية والمجتمع المدني والمجال العام، بالجلوس مساء للاستماع إلى السيد المذيع.

الحراك الاجتماعي والسياسي في بلد كبير مثل مصر يتم اصطياده وترويضه وحبسه في قفص ضيق تتناوب عليه بضع شاشات؛ فلما تضخم دورها، وأحس القائمون عليها بثقل النفوذ والتأثير، راح بعضهم يضع الأجندة التي تناسب أهواءه، ويحرف اتجاهات الجمهور وفق رؤاه، ويصدر الأحكام ويروج الانطباعات التي تحقق مصالحه وتتجاوب مع نزواته وانحيازاته مهما كانت ملتبسة.

وفي هذا الإطار، برز السيد المذيع، مستفيداً من هشاشة المؤسسة الإعلامية التي يعمل فيها، ومستنداً إلى مزايا النجومية، ومعتمداً على ثقة الجمهور الطيب وميله إلى الاستسهال والانبهار بالشخص على حساب المضمون، وتفريط بعض أطقم التحرير والمعدين في استحقاقات أدوارهم وواجباتهم نحو وظائفهم، وضيق أفق المعلن وتكالبه على الأسماء البراقة.

وراح السيد المذيع ينصب نفسه فيلسوفاً وحكيماً وعالماً بالسياسة والاقتصاد والدين والرياضة، وقطباً محورياً يدور الكون حوله؛ فيتدخل في اختيارات القصص وانتخاب المصادر ويوجه الحوار ويستأثر بالرأي ويخوض المعارك باعتباره صاحب الحجة والقول الفصل والمنزه عن الشبهات والخطأ، في يحن الآخرون خاضعون ينتظرون تصنيفه لهم؛ فإما ضمهم إلى الطيبين، أو حنق عليهم فوضعهم في خانة الأشرار.

تتسع تلك الممارسة لتشمل معظم من يقدمون برامج الأحداث الجارية في وسائل الإعلام المصرية الخاصة، بما يعني أن الأمر يشمل المذيعين المشهورين الذين يتصدرون قوائم المشاهدة، وهؤلاء المغمورين الباحثين عن موطئ قدم، كما يشمل هؤلاء المتعلمين تعليماً جيداً متخصصاً، وهؤلاء الذين لم يحصلوا على حظ مناسب من التعليم.

تذكرنا هذه الحالة التي وصل إليها إعلامنا بحالة الإعلام المصري في مطلع القرن الماضي، حين كانت الإذاعات الأهلية تعمل من دون ضابط ولا رابط، حيث أدى الانفلات وغياب القواعد إلى إطلاق إذاعات خاصة امتلكها تجار وسماسرة وبعض أصحاب الأنشطة المشبوهة، وهي الإذاعات التي حولت الأثير لاحقاً إلى ميدان للسباب والطعن في الأعراض وتسهيل ارتكاب الجرائم، لأنها وظفت أفراداً غير مهنيين في وظيفة المذيع.

إن استمرار حالة الإعلام الخاص على ما هي عليه الآن يعني ببساطة أن يتحول هذا الإعلام إلى ساحة للاختلاق والخطل والمعارك المجانية والشتائم وارتكاب الجرائم، وهو أمر سيفقد الجمهور الثقة بوسائل الإعلام الوطنية، وسيدفعه إلى اللجوء إلى منابر بديلة، كما سيؤجج النزاعات والفتن الاجتماعية، وسيغرق المجال العام في الصراع والفوضى.

يتفق عدد من عقلاء المجالين العام والإعلامي على خطورة هذه الممارسات القبيحة والمنفلتة، لكنهم لا يذكرون بوضوح أن السبب في تفشي تلك الظواهر الخاطئة هو تخلينا عن إرساء قواعد مهنية رشيدة ملزمة، تحول دون خلط المذيعين في برامج الأحداث الجارية بين الرأي والخبر.

في برامج الأخبار والأحداث الجارية، على القنوات العامة، أو القنوات التي تدعي الموضوعية والمهنية، يجب ألا يقوم المذيع باستغلال الشاشة لعرض آرائه وخوض معاركه وإملاء أوامره، ولكن يجب أن يعرض قصصاً وأخباراً ووجهات نظر متباينة ومتوازنة على الناس.

علاج الأزمة الإعلامية الراهنة، التي قادتنا إلى هذا المستنقع، يستلزم أن نفصل بين المذيع وصاحب الرأي والناشط السياسي، وأن نغل يد المذيعين عن استخدام منابر الإعلام في معاركهم الخاصة، وأن نتوقف عن دعم الممارسات الحادة والمشينة بمشاهدتها، وقراءتها، و"تشييرها"، والحديث عنها.

فحتى هذه اللحظة تخفق صناعة الإعلام في مصر، في مجملها، في الإجابة عن السؤال: "من الإعلامي؟"، وفيما إذا كان هذا الأخير بشراً يؤدي وظيفة، أو كائناً "سوبر" يعرف الغيب، ويحتكر الحقيقة، ويقود الجمهور، ويعيش على الإلهام.

بسبب تضخم ذات بعض زملائنا المذيعين، وغياب شروط الصناعة الحيوية، فقد توقف نفر منهم عن محاولة تقصي الأخبار، أو نقل الآراء، أو تقديم الشرح المستند إلى أدلة، أو توفير الفرص للأطراف المنخرطة في القضايا للتعبير عن مواقفهم. وراح هؤلاء الزملاء ينكّلون ببعض الأطراف، أو يفكرون بالتمني، أو يختلقون الوقائع، ويشوهون الحقائق، ويمطرون الجمهور المسكين بالتحليلات المأفونة.

ليس لدينا مؤسسات إعلامية تضع أكواداً وأدلة لتغطية الأحداث المهمة، ولا نمتلك وحدات لمراقبة الجودة ورصد الأخطاء، وبالطبع لم نطور آليات تنظيم ذاتي تسمح بتلقي الشكاوى وبحثها.

لا يهتم القائمون على صناعة الإعلام في مصر إلا بالتعاقد مع هذا المذيع النجم أو ذاك، لكن أحداً لم يعط اهتماماً، في معظم الأحيان، للإنفاق على الإعداد، وتوفير المواد التلفزيونية الكافية، وإجراء البحوث المعمقة، واستخدام أدوات التلفزة الفريدة.

معظم المالكين يفكرون في "شغل الهواء" عن طريق المذيع النجم، ولا يبذلون جهداً لتطوير صناعة أخبار معيارية، لا يمكن أن تقوم منظومة إعلامية بدورها من دونها.

بسبب أنماط الأداء الإخبارية المفتقدة لمعايير الدقة، والتوازن، والموضوعية، والاستناد إلى دلائل وبراهين، والنسب إلى مصادر معلنة وواضحة، والاختيار الجيد للمصادر، والعمق، سيفقد الجمهور الثقة بمنظومة الإعلام الوطنية.

ولأن بعض أصحاب الفضائيات والصحف قصيرو النظر، ويبحثون عن النفاذ السياسى، عبر حصد رضا النظام، أو عن المكاسب السريعة لمواجهة أزماتهم المالية، فإنهم يفرطون في استحقاقات الصناعة وأسباب نجاحها الجوهرية.

والحصيلة... أن مصر لا تملك وسيلة إعلام قادرة على أن تنافس وسائل إعلام دولية وإقليمية عديدة في تغطية أحداث مهمة في الإقليم، وهو أمر سلبي بكل تأكيد.

لكن الإشكال الأكبر والأخطر يكمن في أن قطاعات من المصريين تفقد الثقة باطراد في قدرة المنظومة الإعلامية الوطنية، وتسلم نفسها بالطبع لمنظومات أخرى، لكي تحصل على حقها في معرفة ما يجري من دون خبل أو تشويه أو تزوير.

وأنا هنا لا أعمم مجدداً، ولكنني أحذر بشدة، لأن الفراغ الذي سيسببه ذلك النكوص الإعلامي الوطني قد يسبب مخاطر كبيرة، وهذا الأمر لا يخص المنظومة الإعلامية المصرية فقط، ولكنه يخص كل منظومة إعلامية عربية هزيلة.

* كاتب مصري

back to top