للحياة أحياناً طرقها الخاصة لتُظهر لنا كم بات العيش في روسيا باهتاً، ولعل المثال الأحدث والأبرز على ذلك ما حدث في باتريارك بوندز، منطقة مركزية نخبوية تشتهر في الخارج على الأرجح بدورها البارز في رواية ميخائيل بولغاكوف "المعلم ومارغاريتا".
يعكس الخلاف الدائر في هذه المنطقة منذ زمن تفاصيل كثيرة عن مسار الأمور في العاصمة. حبكة هذه القصة بسيطة: يريد سكان باتريارك بوندز السلام والهدوء، لكن عشرات المقاهي والمطاعم الصغيرة فتحت أبوابها في المنطقة خلال السنوات القليلة الماضية، وكانت كلها تتنافس لكسب الزبائن، وهكذا صار هذا المكان يضج بالنشاط كل ليلة ونهاية أسبوع، لكن السكان المحليين سئموا ذلك وقرروا اتخاذ الخطوات للحد منه. لا شك أن الناس العاديين كانوا سيستسلمون بسهولة في حربهم ضد المطاعم المحلية، لكن سكان باتريارك بوندز الأخيار أكثر صلابة وعناداً، فقبل بضع سنوات أفادت وسائل الإعلام الروسية أن نائب العمدة بيوتر بيريوكوف أحضر بنادق رشاشة وحض الرجال على إرغام مالكي المقاهي على إزالة الطاولات عن الرصيف تحت نافذة شقته للحد من الضجيج.في فصل الربيع الماضي أتاح بيريوكوف للسكان المحليين فرصة عقد اجتماع غير رسمي مع عمدة موسكو سيرغي سوبيانين، وثلاثة من مساعديه والمسؤول عن الحي، وساهم نائب مدير بنك ألفا السابق والمحسِن المحلي ألكسندر غافن في تنظيم هذا اللقاء. قرر غافن المخضرم في عالم التواصل ألا يحمل مشاكله مباشرة إلى العمدة، فلجأ أولاً إلى مجلس المدينة، إلا أنه سرعان ما تراجع عن هذه الخطوة، ويوضح: "ألقيت نظرة واحدة على أولئك النواب وفهمت في الحال نوع مَن أوصلناهم إلى هذه المناصب"، لكن الاجتماع مع المسؤولين في البلدية أتى بثمار جيدة.سُحبت منطقة باتريارك بوندز بسرعة من برنامج "شارعي"، الذي شلّ أحياء أخرى في موسكو. لكن هذه الخطوة لم توقف الضجيج الصادر عن أصحاب المقاهي، ونتيجة لذلك لجأ أحد السكان المحليين إلى تدابير جذرية: علّق لافتة فوق شارع Malaya Bronnaya Ulitsa كتب عليها: "أيها العمدة سوبيانين، السكان يطالبون بالهدوء"، لكن الشرطة سارعت إلى إزالة اللافتة المسيئة، إلا أن نائب العمدة يلينا تكاش كانت قد صورتها ونشرتها على وسائل التواصل الاجتماعي. في غضون عشرة أيام توصل المسؤولون عن المدينة والمدعي العام "إلى اتفاق" مع مالكي المقاهي يفرض عليهم إقفال مؤسساتهم بحلول الساعة الحادية عشرة. تعكس قصة انتصار المواطنين على بلدية المدينة هذه بوضوح تام واقع الحياة في موسكو أو في أي مدينة روسية أخرى، ويصف الروس سكان باتريارك بوندز بـ"شيشكي": بأشخاص أثرياء واسعي النفوذ. فضلاً عن ذلك كانت شكواهم محقة، فقد أرادوا على غرار الجميع حول العالم، أن ينعموا بليلة نوم هانئة، وكانوا مستعدين لمحاربة كل مَن ينتهك حقهم هذا.يكمن وجه الاختلاف في أنهم يملكون معارف في الحكومة، ومن دون هؤلاء المعارف ما كانوا لينتصروا، فأدرك أعضاء الطبقة العليا هؤلاء أن مسؤولي المدينة لا يستطيعون مساعدتهم لأنه ما من آلية لإنصاف المظلوم، وما من مجموعة قواعد موحدة لفرض النظام.هل كان بإمكانهم حل مشاكلهم من خلال مفاوضات خاصة؟ هذا غير مرجَّح، فخلال دردشة مع المراسلين عقب هذا الانتصار وجّه ثلاثة من السكان المحليين السبعة الحاضرين (أي نحو 43% من هذه العينة من نخبة باتريارك بوندز) إهانة إلى سكان موسكو الذين يعيشون في الأحياء الأقل ترفاً الواقعة وراء شارع Third Transport Ring، واصفين إياهم بـ"الجراد" ثم "الفاشلين" وأخيراً "الأشخاص من مستوى مختلف".ولكن عندما يكون العمدة الكيان السياسي الوحيد المخوَّل في إحداث التغييرات، يكون الفاشلون نوعَين: مَن يعيشون قرب نائب العمدة ومَن يعيشون بعيداً عنه.* أندري بابيتسكي
مقالات
لا حل للمشاكل في روسيا من دون معارف
07-08-2016