في التسعينيات تعرفتُ على أعمال عدد من الموسيقيين الأحياء، الذين لا عهد لي بمعرفتهم في غمرة ولهي بمؤلفي المراحل الباروكية، الكلاسيكية، الرومانتيكية والحديثة.

ولعل أكثر ما شدَّني من هؤلاء الأحياء ثلاثةُ مؤلفين، يجمع بينهم خيط بالغ الوضوح بالنسبة لي: الأستوني آرﭬو ﭝَرت Arvo part (مواليد 1935)، والبولندي هنريك ﮔورَكّي Henryk Gorecki (1933 - 2010) والفنلندي راوتاﭬارا Rautavaara الذي توفي قبل أيام (مواليد 1928). الخيط البالغ الوضوح بالنسبة لي، الذي يجمعهم ذو هاجس ديني، بالمعنى الميتافيزيقي للدين؛ لا المعنى العقائدي أو المذهبي. ولعل صفة "روحي" تفي بالغرض أيضاً. هاجس ترفع به الأسئلة الحائرة باتجاه الخالق، أو كون الأكوان الذي لا يُحد. وهذا الهاجس لا يتمتع بالطمأنينة عادة، بفعل تساؤله المُلحّ وحيرته التي لا تقع على مُستقَر، كتلك الطمأنينة التي تمتع بها هاجس ديني لموسيقي كبير مثل الألماني باخ مثلاً. مع أن موسيقى باخ، على الرغم من إيمانه العميق كإنسان بمسيحيته، لا تُنسب لعقيدة بعينها، أو مذهب. إنها موسيقى رحبة رحابة الخالق، الذي يحاول العقل البشري المحدود أن يحاصر معناه داخل محدودية وعيه هو. طبيعة الفنان، مقارنة بالشخص الدنيوي المشاغل الذي تنتسب إليه، هي طبيعة أبعد مدى في الرؤية. الشخص ذو المشاغل العملية يظل ابنَ متطلبات الحياة المادية، الموقوتة بزمن محدود. كان باخ حرفياً بارعاً في العمل الموسيقي، عاملاً موسيقياً يقوم بواجبه داخل المدرسة أو الكنيسة، ويؤلف وفق هذا الواجب. وكان إلى جانب هذا ربَّ أسرة كبيرة، يسعى كموسيقي إلى توفير دخل لها يكفي لحياة كريمة. ولعله غادر الحياة، هو المنسي، دون أن يعرف أن موسيقاه كانت أبلغ وأسمى وأعمق ما عرفته القدرات الموسيقية المبدعة، في كل العصور. كان وفياً لإيمانه المسيحي، لكن موسيقاه، التي تستلهم هذا الإيمان بالتأكيد، تذهب أبعد بكثير من الأركان التي تحددها المسيحية للمسيحي كعقيدة.

Ad

الموسيقي "ﭙَرت" الأستوني يبدو ملتاعاً، بفعل حصار روحي داخل موسيقاه. استمع إن شئت إلى عمله اللائب Siletium * في موقع You Tube. لكن إن أردت المعترك بين هاجسه المُستثار المضطرب وبين الهاجس المستسلم للطمأنينة، فاذهب إلى عمله Fartres*، الذي يعني "أخوة" باللاتينية. أما ﮔوريكي فأكثر التياعاً، ومن سيمفونيته الثالثة الأكثر شهرة: "أغنيات حزينة" Sorrowful Songs Symphony of يمكنك أن تستمع إلى حركتها الثانية*. وإذا أثارت حماسك، وأنا على يقين أنها ستفعل، فحاول معها من الحركة الأولى.

راوتاﭬارا، الذي توفي في 27 من الشهر الفائت، عن سبعة وثمانين عاماً، خبرَ هذا التطلع الروحي في أعمال عديدة، لعل أبرزها سيفونيته السابعة "ملاك الضوء" (1994). لكنه عبر مسيرة تطوره شغله التقلب بين انتسابات فنية عدة: "الكلاسيكية الجديدة" في الخمسينيات، و"التسلسلية" في الستينيات، و"الرومانتيكية الجديدة" في السبعينيات، وفي الثمانينيات، وهي المرحلة الأكثر نضجاً، وجد طريقه الخاص في نزعة كان يسميها "التوليفية"، حيث لا يعتمد أسلوباً واحداً بعينه، بل يجمع بين أساليب عدة. ويحاول أن يفلسف اختياره هذا بقوله: "إنه تحطيم حدود المحرمات في الانتساب الأسلوبي، باعتبار هذا الانتساب دليلاً على قصر النظر، وعلى الميل العنصري".

ولعل خير ممثلٍ له هو عمله Cantus Arcticus أو "كونشيرتو الطيور"، الذي يعتبر أكثر أعماله شهرة، حيث جعل صوت الطيور في محل العازف المنفرد في فن الكونشيرتو، في مواجهة الأوركسترا. ولقد تحدثتُ عنه بتفصيل في كتابي "الموسيقى والشعر" (دار نون 2015).

كان من أب موسيقي وأمّ طبيبة مولعة بالموسيقى. درس في هلسنكي، وإذ فاز بجائزة على عمل "قداس زمننا الجنائزي" وهو طالب عام 1953، أثار انتباه الموسيقي الكبير سيبليوس، وكان في الثمانين من عمره، فأوصى بأن يُعطى منحة للدراسة في أميركا.

خبر راوتاﭬارا، كما قلت، أساليب عدة عبر مراحل حياته الغزيرة الإنتاج. قدم 8 سيمفونيات، و9 أوبرات، و12 كونشيرتو، وله عدد من أعمال موسيقى الغرفة، وأعمال كورالية، وأغانٍ.