عندما تعاكس الأوضاع سياسة الولايات المتحدة المعلَنة في سورية، يستخلص غالباً مَن يعيشون في المنطقة، بغض النظر عن الجانب الذي يؤيدونه، أن المعلَن ما هو إلا وسيلة خداع: لا يُعقل أن تكون القوة العظمى الوحيدة في العالم ساذجة إلى هذا الحد.

طرح أخيراً عدد من ضباط الجيش اللبناني، في تعليق على الحملة العسكرية العشوائية ضد "داعش" في شرق سورية، فكرة أن واشنطن تريد استمرار هذه المجموعة الإرهابية، ولا شك أن الثوار السوريين، الذين يُقاومون بيأس حصار مدينة حلب، يرون في تعاون حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي المدعوم من الولايات المتحدة مع روسيا ونظام الأسد "دليلاً" على دعم واشنطن حكومة الأسد.

Ad

تعكس الكارثة المتواصلة في سورية عدداً من العوامل، إلا أن أهداف واشنطن ليست بينها، ومن المؤكد أن أوباما يرغب حقاً في تنحي الأسد في عملية انتقالية منظّمة، ولا شك أن الرئيس الأميركي كان جاداً حين تعهد عام 2014 بتفكيك "داعش" والقضاء عليه، لكن عقبات عدة أعاقت دربه ولا تزال.

يعتقد عدد من المسؤولين في إدارة أوباما أن من الضروري غض النظر قليلاً عن إجرام الأسد (ما اقترفه من جرائم حرب وحشية وجرائم ضد الإنسانية) على أمل إقناع رأس العائلة الإجرامية الأولى في سورية بمشاطرة السلطة أو التخلي عنها من خلال المفاوضات، ولا شك أن الدبلوماسيين الروس نصحوا نظراءهم الأميركيين بالحد من التركيز على مسألة الجرائم، ففضلاً عن حماية عميل، يسعى هؤلاء الدبلوماسيون إلى تغطية استهداف موسكو المتعمَّد المدنيين السوريين.

ولكن من حسن الحظ أن الرئيس الأميركي حسم هذه المسألة بشكل نهائي، لن تجمع الولايات المتحدة بالأسد أي قضية مشتركة وانتهى الأمر، صحيح أن أوباما لن يتدخل في سعي وزير خارجيته للتوصل إلى تسوية من خلال المفاوضات، غير أنه يدرك أن على أحد إرغام عائلة الأسد وأعوانها على التعاون: يصيب مقترفو جرائم الحرب في اعتبارهم تشاطر السلطة منحدراً زلقاً يقودهم إلى المحاسبة، إلا أن الولايات المتحدة لن تكون مَن يرغمها نظراً إلى دعم إيران الأسد.

ولكن هل تتخلى إيران عن الصفقة النووية إن تلقى الثوار السوريون وسائل لحماية المدنيين من هجمات جوية؟ وهل تتخلى طهران حقاً عن المكاسب الاقتصادية التي جنتها من هذه الصفقة إن ردعت مجموعة صواريخ جوالة توَجَّه من حين إلى آخر ضد قواعد النظام الجوية هذا الحاكم المستبد من ارتكاب عمليات قتل جماعية؟ الجواب هنا "لا"، إذ تعتبر طهران أن الصفقة النووية بالغة الأهمية، وأنها تخدم مصالحها الخاصة، وقد خاضت المفاوضات بشأن الاتفاق النووي، في حين سعت في الوقت عينه لتطبيق سياسة في سورية تهدف في المقام الأول إلى ترسيخ مكانة مجموعة حزب الله المقاتلة اللبنانية في المنطقة، علماً أن هذه المجموعة سبق أن استهدفت الأميركيين. إذاً يبرع الإيرانيون في تصنيف السياسات وفصلها بدقة وتعقّل، في حين يبتكر الأميركيون روابط خاطئة تشلّ حركتهم.

إن كانت واشنطن قد بالغت في تقييم الوجه الإيراني من الأزمة السورية، فالأمر عينه ينطبق على الحرب ضد "داعش"، فقد حظي المتحدرون من القاعدة في العراق بملجأ آمن في سورية بفضل سعي الأسد الدموي للاحتفاظ بالسلطة في هذا البلد، ومن "عاصمته" في الرقة يدير "داعش" عملياته في العراق، وينفذ أعمال إرهاب جماعية في أوروبا: فظائع يأمل تكرارها في أميركا الشمالية.

لكن عملية مشتركة جمعت بين ضربات الائتلاف الجوية والمناورات البرية، التي تنفذها ميليشيات كردية بغالبيتها، ألحقت ضرراً كبيراً بـ"داعش" في سورية، وتستطيع قوة برية محترفة (تقودها الولايات المتحدة وتضم وحدات إقليمية، أوروبية، وأميركية) أن تقضي نهائياً وبسرعة على الجناح السوري من هذه المجموعة المريعة، لكن مبررات عدم التدخل كثيرة: يجب أن تُنفِّذ هذه العملية قوات برية تتألف من مجموعات محلية فحسب، وسيدفع هزم هذا التنظيم في سورية الناجين منه إلى التوجّه إلى منطقة أخرى، ويساهم الإطباق على "الخليفة" المزعوم وأعوانه وقتلهم في الترويج لدعايتهم المناضلة. وأخيراً ما من أحد سيدير شرق سورية بعد القضاء على "داعش".

لكن هذه حجج واهية انهزامية يساهم مَن يتذرع بها في تحقيق بعضها، فما الخطوات التي اتخذتها الولايات المتحدة لتقوية المعارضة السورية منذ اعترافها بالمجلس الوطني السورية في عام 2011 كممثل شرعي للشعب السوري؟ رغم ذلك، لن تتردد الإدارة الأميركية مطلقاً في تجاهل حججها هذه، إن نفّذ "داعش" في الولايات المتحدة فظائع جماعية شبيهة بما شهدناه في أوروبا أخيراً.

تشكّل سورية محور أزمة دولية، أزمة تزعزع السياسات الداخلية لحلفاء الولايات المتحدة بطرق تعود بالفائدة والراحة على زعيم روسي يتوق إلى إنزال الهزيمة بحلف شمال الأطلسي وتفكيك الاتحاد الأوروبي، ويعتقد السوريون وغيرهم في المنطقة أن الولايات المتحدة تدرك هذه الوقائع، ولا يمكنهم تصديق أن إخفاق واشنطن في وقف جرائم الأسد الجماعية (إرهاب من نوع آخر يدعم إرهابيين آخرين) وحملتها المتباطئة ضد "داعش" يعكسان التردد وفقدان الثقة بالنفس فحسب، فهذا لا يلائم الولايات المتحدة التي ظنوا أنهم يعرفونها؛ لذلك يميلون إلى رؤية تصميم ما في هذا، وهم مخطئون.

في المقابل يواصل الأسد ارتكابه جرائم القتل الجماعية بفضل التستر الروسي والإيراني، كذلك يستمر "داعش" في تفادي القنابل من الجو والأكراد على الأرض، لكن الأخطاء في التحليل لا تجعلنا عُمياً أو محصنين ضد عواقب ما قامت به الولايات المتحدة أو أخفقت في إنجازه في سورية.

فريدريك هوف Frederic Hof

*مدير في مركز رفيق الحريري للشرق الأوسط التابع للمجلس الأطلسي عمل مستشاراً خاصاً للعملية الانتقالية في سورية في وزارة الخارجية الأميركية عام 2012.