صداع البريكسيت في أوروبا

نشر في 10-08-2016
آخر تحديث 10-08-2016 | 00:03
من غير المرجح أن تتفكك منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي فجأة، فالعديد من المخاطر التي تواجهها هي على فتيل بطيء، ويمكن بالطبع تجنب التفكك من خلال رؤية سياسية توازن بين الحاجة إلى مزيد من التكامل والرغبة في درجة معينة من الاستقلال الوطني والسيادة على مجموعة من القضايا.
 بروجيكت سنديكيت كانت ردة فعل السوق لصدمة البريكسيت خفيفة مقارنة بالحلقتين الأخيرتين من التقلب المالي العالمي: صيف عام 2015 (بعد المخاوف من الهبوط الصيني الحاد) والشهرين الأولين من هذا العام (بعد تجدد المخاوف حول الصين، بالإضافة إلى المخاطر العالمية الأخرى). وكانت الصدمة إقليمية بدلا من عالمية، بالنظر إلى تأثير السوق في المملكة المتحدة وأوروبا، واستمر التقلب فقط نحو أسبوع، مقارنة مع الحلقتين السابقتين بمخاطرهما الشديدة، واللتان استمرتا نحو شهرين وأدتا إلى تصحيح حاد في الولايات المتحدة وأسعار الأسهم العالمية.

لماذا هذه الصدمة المؤقتة الخفيفة؟

بداية حسابات المملكة المتحدة لا تتعدى 3% فقط من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، على النقيض من ذلك، تمثل الصين (ثاني أكبر اقتصاد في العالم) 15% من الناتج العالمي وأكثر من نصف النمو العالمي.

وعلاوة على ذلك فإن الوحدة التي أظهرها الاتحاد الأوروبي بعد البريكسيت، جنبا إلى جنب مع نتيجة الانتخابات الإسبانية قد خففت من مخاوف أن الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو سينهار في وقت قصير، وعزز التحول السريع للحكومة في المملكة المتحدة الآمال بأن مفاوضات الطلاق مع الاتحاد الأوروبي، ولو كانت وعرة، ستؤدي إلى تسوية تحافظ على معظم الروابط التجارية من خلال الجمع بين ولوج كبير إلى السوق الواحدة مع وضع قيود متواضعة على الهجرة.

الأهم من ذلك، استنتجت الأسواق بسرعة أن صدمة البريكسيت من شأنها أن تؤدي إلى مزيد من التراضي بين البنوك المركزية الكبرى في العالم. في الواقع كما هي الحال في مخاطر الحلقتين السابقتين، ساندت سيولة البنك المركزي الأسواق والاقتصادات.

ولكن أُجل خطر عدم الاستقرار الأوروبي والعالمي فقط لفترة وجيزة، وإذا تركنا جانبا المخاطر العالمية الأخرى (بما في ذلك تباطؤ النمو في الولايات المتحدة بالفعل، والخوف من الهبوط الحاد للصين، ضعف أسعار النفط والسلع، والهشاشة في الأسواق الناشئة الرئيسة)، وهناك الكثير من الأسباب تدعو للقلق في أوروبا ومنطقة اليورو:

أولا، إذا طالت وتعقدت إجراءات الطلاق بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي فستعاني الأسواق والنمو، وقد يدفع الطلاق القبيح أيضا اسكتلندا وأيرلندا الشمالية لمغادرة المملكة المتحدة. في هذا السيناريو قد تطالب كاتالونيا أيضا الاستقلال عن إسبانيا، وبدون المملكة المتحدة تخشى الدنمارك والسويد اللتان لا تخططان للانضمام إلى منطقة اليورو أن تصبحا عضوين من الدرجة الثانية في الاتحاد الأوروبي، مما سيؤدي بهما إلى التفكير في المغادرة كذلك.

ثانيا، تعد الانتخابات المقبلة بمثابة حقل ألغام سياسي؛ وستعاد الانتخابات الرئاسية في النمسا في شهر سبتمبر القادم بعد أن انتهى بالتعادل الظاهري سابقا، وستعطى فرصة أخرى لرئيس حزب الحرية اليميني المتطرف السيد نوربرت هوفر. وفي الشهر الموالي سيجرى استفتاء في المجر، بمبادرة من رئيس الوزراء فيكتور أوربان حول نظام الحصص المقترح من الاتحاد الأوروبي بشأن إعادة توطين المهاجرين، والأهم أن إيطاليا ستجري استفتاء على التعديلات الدستورية، وإذا رُفضت فستصبح عضوية البلاد في منطقة اليورو في خطر حقيقي.

وتعتبر إيطاليا حاليا أضعف حلقة في منطقة اليورو، فقد أصبحت حكومة رئيس الوزراء ماتيو رينزي مهزوزة سياسيا، بالإضافة إلى النمو الاقتصادي المتدني، والبنوك في حاجة إلى رأس المال، الشيء الذي سيجعل تحقيق الأهداف المالية للاتحاد الأوروبي صعبا بدون إحداث ركود آخر، وإذا فشل رينزي، وهذا ممكن على نحو متزايد، فإن حركة خمس نجوم المناهضة لليورو (التي فازت مؤخرا بشكل جيد في الانتخابات البلدية) يمكن أن تصعد إلى السلطة في وقت مبكر من العام المقبل. وإذا حدث ذلك فإن مخاوف مغادرة اليونان لأوروبا عام 2015 ضئيلة مقارنة مع إيطاليا، ثالث أكبر عضو في منطقة اليورو، وفشلها سيكلف أكثر، ولكن نظراً إلى الدين العام في إيطاليا الذي يكبر بعشر مرات دين اليونان، فهو أيضا ضخم جدا ولا يمكن حفظه، ولا يوجد برنامج في الاتحاد الأوروبي يستطيع مساندة إيطاليا بمبلغ تريليوني يورو (2.2 تريليون دولار) من الدين العام (أي 135% من الناتج المحلي الإجمالي).

وعلاوة على ذلك فإن الانتخابات في فرنسا وألمانيا وهولندا في عام 2017 قد تخلق شكوكا إضافية باعتبار أن ضعف النمو وارتفاع معدلات البطالة في معظم أوروبا ستدعم الحركة المناهضة لليورو، والمعادية للمهاجرين والمسلمين. كما ستدعم والأحزاب الشعبية اليمينية المناهضة للعولمة (في قلب منطقة اليورو) واليسار (على هامش منطقة اليورو). وفي الوقت نفسه، المحيط الجغرافي الأوروبي سيئ ويزداد سوءا، وأصبح النظام الرجعي في روسيا أكثر حزما وليس فقط في أوكرانيا، ولكن أيضا في دول البلطيق والبلقان، وستكون للاضطرابات المستمرة في الشرق الأوسط ترتيبات على الأقل في شقين: تجدد حلقات الإرهاب في فرنسا وبلجيكا، وألمانيا، والتي مع مر الزمن ستقلص وتيرة الأعمال وثقة المستهلك، وستزيد من تعميق أزمة الهجرة التي تتطلب تعاونا أوثق مع تركيا، التي أصبحت نفسها غير مستقرة منذ الانقلاب العسكري الفاشل.

حتى نهاية الجولة المقبلة من الانتخابات، من غير المرجح أن تتخذ أي خطوات لاستكمال الوحدة النقدية التي لم تنته بعد، من خلال تقاسم المخاطر وتسريع الإصلاحات الهيكلية لتشجيع تقارب اقتصادي أسرع في الاتحاد الأوروبي، ونظرا لبطء الإصلاحات حاليا (وشيخوخة السكان)، لا يزال النمو المحتمل منخفضا، في حين أن النمو الفعلي ضعيف والانتعاش المحتمل معتدل جدا، إذ بات مهددا من قبل الشكوك والمخاطر المترتبة على ما بعد البريكسيت. في الوقت نفسه العجز والديون عالية، بالإضافة إلى قواعد منطقة اليورو، وتقييد استخدام السياسة المالية لدعم النمو، في حين أن البنك المركزي الأوروبي قد يصل إلى حدود ما يمكن القيام به حتى من طرف السياسة النقدية غير التقليدية للحفاظ على الانتعاش. ومن غير المرجح أن تتفكك منطقة اليورو والاتحاد الأوروبي فجأة، فالعديد من المخاطر التي تواجهها هي على فتيل بطيء، ويمكن بالطبع تجنب التفكك من خلال رؤية سياسية توازن بين الحاجة إلى مزيد من التكامل والرغبة في درجة معينة من الاستقلال الوطني والسيادة على مجموعة من القضايا.

لكن إيجاد طرق ديمقراطية ومقبولة سياسيا للاندماج أمر حتمي، فقد أدى التخبط إلى وضع غير مستقر من شأنه أن يجعل تفكك الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو أمرا لا مفر منه، ونظرا لكثرة المخاطر التي تواجه أوروبا فإن هناك حاجة إلى رؤية جديدة الآن.

* نورييل روبيني | Nouriel Roubini ، الرئيس التنفيذي لشركة روبيني شركاء، وأستاذ بكلية الاقتصاد في كلية ستيرن لإدارة الأعمال، جامعة نيويورك.

«بروجيكت سنديكيت، 2016» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top