النوايا السوداء
نحن كبشر لسنا كاملين، ولم نخلق من خير خالص وتقوى نقية، إنما من طين، أي من تراب وماء، هذه حقيقة لا أزعم أني أتيت بشيء جديد بشأنها، ومعلومة بديهية لا تحتاج لفذلكة جدل، كلنا فينا من السوء والصلاح، وإن اختلفت نسبة كل منهما فينا، إلا أن كثيراً منا من يحاول إخفاء سوئه، لإظهار حسنته، وجزء من هذا الكثير يحاول جاهداً وصادقاً ومخلصاً في ذلك، وجزء آخر قد لا يبذل الجهد الكافي في محاولة إخفاء ما بداخله من سوء أو شر، ناهيك عن أولئك الذين لا يبالون ولا يبذلون أي جهد، ولو صغير، من أجل ذلك، أو أولئك الذين يتفاخرون بأن قلوبهم تحتوي على النصيب الأكبر من الشر، وسلوكياتهم على النصيب الأكبر من السوء، فهؤلاء خارج نطاق الكتابة عنهم، فسوؤهم أكثر بلاغة من أي حديث، وشرهم أكثر تعبيراً مما تود قوله الكلمات.الذين يُخفون سوءهم عن الناس صنفان؛ صنف يخفي سوءه، حماية للآخرين من شر نفسه، والصنف الآخر يحاول إخفاء شره عن الناس، ليباغتهم به وقت الحاجة!
الأول محب كريم، أما الثاني فماكرٌ لئيم، والفرق بين الصنفين شعرة!يكادان يتشابهان في الملامح، كلاهما يخفي عن الناس بعضاً من حقيقته، كلاهما يتعمَّد ألا يظهر كل الصدق، كلاهما يغطي جزءاً من مرآته بعباءة الظلام، كلاهما يرتدي ذات الوجه غير المكتمل، كلاهما زوَّر في بطاقته الشخصية، ولم يملأ استمارة المعلومات عن أوصافه كاملة، كلاهما لم يظهر ما يضمر، فلماذا إذن من إذا عقلنا جعلناه حبيباً نحرص ألا نفرط به، فيما الآخر من الخير لنا أن يكون خصماً ظاهراً؟!ببساطة، لأن الأول يحمينا من نفسه عندما يخفي سوءه عنا، أما الثاني، فيحمي نفسه منا، الأول يفلتر نفسه ليصفو لنا جماله، أما الثاني، فيستخدم بشاعته ضدنا لتطبق على أنفاسنا ذات غفلة، حتى وإن كان الشبه كبيراً بين الصنفين، إلا أنهما شتان لاختلاف النوايا، لكننا لا نملك القدرة على أن نقرأ النوايا في لوحات البُنّ المتشبث بجدار الفناجين بعد الانتهاء من شرب القهوة وقلبها، ولا نفك طلاسم ما توشوش به الأصداف في أذن العرافة، ولا نتهجأ الخطوط في وجنات الرمل. قدرتنا محدودة جداً في معرفة النوايا، نعرفها فقط بعد الفعل وليس قبله، نعرفها فقط عندما نُطعن عن قُرب، وليس قبل ذلك، ثمن معرفة كل نية مخبؤه طعنة، قليل منا من استطاع تجنب دفع ثمن النوايا المخبأة، أولئك الذين قادهم نقاء قلوبهم والدعوات المباركة لمحالفتهم الحظ في أغلب الأحيان، ليتخطوا النوايا السوداء، ولأن هؤلاء قلة بيننا، فقد تولت البقية من الناس من أمثالنا العناية الإلهية بأن أدركت عجزنا وقلة حيلتنا أمام النوايا التي يحجبها الظلام، فلم تتركنا لقمة سهلة في مخالبها، إذ لا تكف تلك العناية عن إرسال إشارات التنبيه والتحذير لنا، والعاقل منا من اتبع فطنته، أما قليلو الحظ، فهم أولئك الذين يفكون شيفرة تلك الإشارات بعد فوات الأوان، قائلين بأسى: "كل شيء كان أمام عيني، لكني لم أرَ"!