غدا الشأن التركي في السنوات الأخيرة، وبخاصة مع بداية القرن الجديد والفوز الكاسح لحزب العدالة والتنمية عام 2002 الذي يتزعمه أحد قادة الإسلاميين من الساسة الأتراك، أي الرئيس رجب طيب إردوغان المحسوب على تيار الإخوان المسلمين، غدا هذا الشأن بعد سلسلة من النجاحات السياسية والاقتصادية، جزءاً لا يتجزأ تقريبا من الاهتمامات الرئيسة للإعلام العربي، وبات الجمهور في كل الدول العربية يتفاعل بعمق سلبا وإيجابا مع تطوراته، وبخاصة مع مجريات "انقلاب 15 يوليو 2016"، والتطورات التي رافقته.

وسنحاول فيما يلي أن نقتبس للقارئ نماذج من رؤى وتقييم الكتاب والإعلاميين العرب حول الانقلاب والرئيس إردوغان وتركيا وغير ذلك، وسنحاول في أقرب فرصة أن نعود إلى حديثنا عن روافد الحركة الإسلامية وجذورها في تركيا.

Ad

نجاة الاقتصاد التركي

توقف الكاتب والصحافي الاقتصادي جمال بنون عند الجانب الاقتصادي، فكتب متناولا بعض تفاصيل هذه المخاطر التي كانت تهدد تركيا: "كاد الانقلاب أن يحرق صيف تركيا ويلحق بها خسائر فادحة، ويتسبب في إلغاء الآلاف من حجوزات الطيران والفنادق والشقق والمنتجعات السياحية ومراكز التسوق، وكاد أن يتسبب في ترك العديد من الأتراك وظائفهم ويرفع البطالة إلى أكثر من 11 في المئة، وتراجع مكانة تركيا عالميا التي تحتل المركز السادس، وفقا لعدد السياح الأجانب الذين يبلغ عددهم نحو 40 مليون سائح، ويدخل خزانتها أكثر من 30 مليار دولار سنويا، ويشكل هؤلاء 77 في المئة من عائدات السياحة في البلاد ويحتل الروس المرتبة الأولى، إذ يبلغ عددهم 4 ملايين سائح".

وقارن "بنون" تجارب دول عربية وإسلامية أخرى بما كادت تتعرض له التجربة التركية فقال: "من حسن المصادفات أن الشعب التركي المسلم لم ينجر وراء نماذج البلدان العربية والإسلامية مثل باكستان وبنغلاديش، وكانت نتيجتها أن الانقلابيين نجحوا وفشلت مؤسسات الدولة وضاعت شعوبها ما بين الصراعات السياسية وأفرادها، وانقسمت البلاد إلى قسمين أو أكثر، كل فئة مع حزب سياسي أو ديني، وهو بداية الصراع الطائفي والمذهبي وضياع الوطن وشعبه".

(الحياة، 25/ 7/ 2016).

الانقلاب قد يزعزع الجيش التركي

لكن إن كان الاقتصاد التركي قد نجا فإن سمعة الدولة والتجربة وقائدها باتت في رأي "جورج سمعان" موضع تساؤل فـ"الرئيس رجب طيب إردوغان بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة لن يعود كما كان قبلها، وكذلك تركيا لن تعود إلى صورتها المعهودة، ما يرسمه ويقرره الرئيس، صوابا أو خطأ تعسفا أو التزاما للقوانين، سيحدد مستقبل البلاد، فالرجل الذي أعلن وفاة "تركيا القديمة" يحدد بإجراءاته وقراراته الصورة المقبلة للبلاد، هل تكون أكثر ديمقراطية وعدالة أم أنها ستدخل تاريخ حكم الفرد أو حكم الحزب الواحد لترزح تحت نظام دكتاتوري مقنّع بخطاب حداثي لكنه في الحقيقة يدفع المجتمع نحو مزيد من المحافظة بعيدا عن الليبرالية".

إن الإجراءات المتوالية على الجيش التركي منذ الإعلان عن فشل الانقلاب تنذر بمخاطر مستقبلية قد تتجاوز حجم الحدث نفسه، بعد أن أجهضت المحاولة.

يقول الكاتب مضيفاً في العدد نفسه من الصحيفة: "الرئيس إردوغان أعلن أنه سيقضي على "الدولة الموازية" التي يرعاها الداعية غولن، لكن إفراغ مؤسسات تركيا من قادتها وكفاءاتها يشكل تهديدا كبيرا لمستقبل الدولة وبقائها. والتحدي الجدي يكمن في القدرة على إعادة بناء مؤسسات جديدة وهياكل بديلة. إن اجتثاث "دولة غولن" سيخلف فراغا واسعا في عدد من القطاعات لن يكون سهلا إقامة بدائل لها، ولعل أخطر تداعيات الأحداث التي تشهدها هي ما أصاب ويصيب المؤسسة العسكرية التي خرجت منقسمة على نفسها.

إن اعتقال أو إعفاء جنرالات وقادة كبار في ظل خوض تركيا حربا مع حزب العمال الكردستاني، والإرهاب الذي لم يعد يوفرها، مجازفة تهدد الأمن الداخلي، وما يطاول الجيش اليوم من إجراءات لتصفية آخر مراكز القوى التي لا تزال تتمسك بالعلمانية هوية وعقيدة للبلاد عملية قد تطول، وكلما اتسعت دائرة المتضررين من تغيير الهوية التي رسمها مصطفى كمال أتاتورك والجنرالات اتسعت معها دائرة المخاوف على مستقبل البلاد وأمنها".

ولكن حزب العدالة والتنمية بقيادة الرئيس إردوغان، سيبني جيشا تركيا جديدا، وقيادة أكثر ولاء له ولحزبه، غير أن الكاتب يرى في هذا مخاطر تزعزع الثقة بهذا الجيش الذي يؤدي دورا حساسا بالغ الأهمية، فيقول: "فليس سهلا تحييد الجيش الذي كان وراء قيام تركيا الحديثة، ولا من الحكمة إشغاله بصراعات وتصفية حسابات في وقت يعول عليه الشركاء في "الناتو" وحتى روسيا في الحرب على "داعش" وإخوانه، كما أن استعادة أنقرة دورها الإقليمي الفاعل لا يمكن أن تتحقق من دون قوة عسكرية وازنة في إقليم مضطرب يعج بالتدخلات الأجنبية، أما عملية إعادة تأهيل جيش هو الأكبر في حلف "الناتو" بعد الجيش الأميركي فليست عملية سهلة ويسيرة في جو من الإحباط والغضب والشعور بالإذلال، فضلا عن أنها تستغرق وقتا لبناء كفاءات وتربية قيادات جديدة. إن تهديد إردوغان الانقلابيين بدفع ثمن باهظ قد يرتد على البلاد عموما وليس على الرؤوس المدبرة وحدها".

أسلمة الجيش

لقد رأينا تأثير الأسلمة على الجيش الإيراني بعد ثورة 1979! فهل يريد الرئيس إردوغان بناء جيش عقائدي على أسس "إسلامية عثمانية" مثلا، ويدير ظهره تماما للناتو والولايات المتحدة وأوروبا، ليتزعم العالمين العربي والإسلامي، وقد يدخل في صراع قومي مع العرب، ونزاع مذهبي طائفي مع إيران، وربما صدام غير مأمون العاقبة مع إسرائيل كذلك؟ وهل ستبقى تركيا إن دخلت طرفا في كل هذه النزاعات واحة استقرار سياسي، وموطنا آمنا للاستثمار الاقتصادي؟ وهل ستبقى مستويات المعيشة فيها والخدمات والسياحة على حالها؟

أسلمة الجيش قد تقسم المجتمع

الكاتب اللبناني بهاء أبو كروم يقول في الصيحفة نفسها 22/ 7/ 2016: "خيط رفيع يفصل بين تطهير الجيش التركي من الانقلابيين والحفاظ على كرامة هذا الجيش وقوته. والحال أنه ما دام رجب طيب إردوغان رئيسا للدولة التركية، فإن ولاء الجيش هو مادة اشتغاله الرئيسة التي شرع بها فور توليه السلطة وخاض لأجل ذلك مسارا طويلا من الملاحقات والمحاكمات بهدف تطهير الجيش وإخضاعه، ناهيك عن إضعافه معنويا بفعل منهجية مدروسة لتحييده عن الصراع على هوية تركيا الثقافية. وهذا كله لأن توجهاته في فرض الطابع الإسلامي تعاكس قناعات الجيش والمسار التقليدي للمجتمع التركي.

فمسار أسلمة المجتمع في تركيا هو محط انقسام داخلي عدا أنه يفقد الجيش أحد موضوعاته الأساسية، أي الحفاظ على هوية تركيا العلمانية، إذ إن لذلك يعود الفضل في بناء تركيا الحديثة التي وجدت هويتها ضمن تقاطع معادلة الشرق - غرب، حيث خرجت من الحروب العالمية قوة حضارية منخرطة في المستقبل، ويحتاج إليها العالم في توازناته الدقيقة، وموقع تركيا هذا أتى نتيجة لرؤية مؤسس الدولة الحديثة مصطفى كمال أتاتورك الذي رسم تلك الخيارات وحسم هويتها وأرسى قواعد الحداثة في مفاصل الدولة".