بينما كنت أزور مقر الجيش الأميركي في أوروبا في شهر نوفمبر، تلقيت تقريراً عن أداء الجيش الروسي في أوكرانيا، إذ راح الشاب الذي كان يتلو التقرير بنبرة روتينية، يعدد تفاصيل معركة زيلينوبيليا في شهر يوليو عام 2014، حين كادت ضربة مدفعية روسية واحدة تقضي على كتيبتين مؤللتين في بضع دقائق.

صعُب عليّ تخيل كتيبة مدرعة أميركية تتعرض لضربة مدفعية واحدة، فأدركت عندئذٍ أن أوكرانيا تحوّلت إلى وسيلة تستعرض من خلالها روسيا ما قد يحدث إن خضنا ضدها ذات يوم معركة محتدمة، فقلت مازحاً حينذاك: "أتعرفون؟ منذ بداية الحرب الباردة، هذه أول مرة ينجح فيها جيش أجنبي في التفوق على إحدى قدرات الجيش الأميركي القتالية".

Ad

شكّلت هذه المعلومات مصدر قلق كبيراً لأن القوة المدفعية تُعتبر منذ قرن ركيزة القدرات القتالية البرية الأميركية. على سبيل المثال ما كان الألمان في معركة النورماندي يكترثون بنوعية مدرعات الجيش الأميركي أو مشاته، بل خشوا قوته المدفعية، فعجزوا حينذاك عن تركيز القصف المدفعي خارج حدود الوحدة، وفي المقابل سمح ابتكار أميركي يُدعى "القصف المركّز على الهدف"، لمئات المدافع بأن تستهدف نقطة واحدة، مكيلةً لها القذائف في الوقت عينه، وكان لهذا الابتكار تأثير مدمر في الألمان.

خلال حرب الخليج عبّر العراقيون عن خوف كبير مما دعوه "المطر الفولاذي"، وكان هذا "المطر" عبارة عن مئات آلاف القنابل الصغيرة، التي لا يتخطى حجمها حجم مصباح يدوي، والتي تحمل حشوات قذائف أو رؤوسا حربية صاروخية، كذلك عملت الرادارات الأميركية المضادة للنيران مع الراجمات الصاروخية على إسكات مدافع صدام حسين المشهورة في سلسلة مكثّفة من القصف المتواصل طوال اليوم، وهكذا ما عادت المدفعية العراقية تشكّل أي خطر على جنودنا.

لكن التجربة الأوكرانية تشكّل نموذجاً مميتاً عما قد يحدث للمدفعية الأميركية إن خضنا حرباً ضد روسيا أو أحد أعوانها، وبات مدى أنظمة النيران الروسية الجديدة يتخطى مدى أسلحتنا بنحو الثلث أو أكثر، كذلك حسّن الروس تقنية "المطر الفولاذي" التي اتبعناها بتطوير جيل جديد من ذخيرة القنابل يمكن ملؤه بمتفجرات فراغية، فتولّد هذه الذخيرة موجة انفجار قوية من الغازات المشتعلة تُعتبر أشد فتكاً من المتفجرات التقليدية، ويمكن لوابل واحد من المطر الفولاذي الفراغي الروسي تطلقه كتيبة متخصصة في شن الهجمات الصاروخية الثقيلة أن تقضي على كل شيء ضمن مساحة 140 هكتاراً تقريباً.

بالإضافة إلى ذلك يبرهن أداء المدفعية الروسية في أوكرانيا بوضوح أن روسيا نجحت خلال العقدَين الماضيين في تحقيق تقدّم تكنولوجي كبير سمح لها بالتفوق على الولايات المتحدة، صحيح أن الطائرات الاستراتيجية بدون طيار الأميركية، التي تقضي على الإرهابيين من قواعد في نيفادا، أكثر تقدماً مما تملكه روسيا، إلا أن الطائرات التكتيكية بدون طيار الروسية، التي تقوم بالمهام الاستطلاعية لسلاح المدفعية، أكثر تفوقاً بأشواط (وأكثر عدداً أيضاً)، مقارنة بما نملكه نحن. فعندما اندلعت معركة ديبالتسيف عام 2014 أفاد الأوكرانيون أن نحو ثماني طائرات من هذا النوع كانت تحوم فوق رؤوسهم في آن واحد.

علاوة على ذلك تُظهر تكنولوجيا الحرب الإلكترونية التي طبقتها روسيا في أوكرانيا أنها الأفضل في العالم وأفضل مما نملكه بالتأكيد، فخلال حصار مطار دونيتسك طوال 240 يوماً تمكن الروس من التشويش على نظام تحديد المواقع العالمي، والأجهزة اللاسلكية، وإشارات الرادار، وكذلك تبين أن قدرات الاعتراض الإلكتروني التي طوروها عالية جداً، حتى إنها شلت عمليات الاتصال الأوكرانية، فقد اشتكى القادة الأوكرانيون أنهم كانوا يتعرضون لوابل من النيران كعقاب بعد ثوانٍ من توجيههم أي بثّ لاسلكي.

أيعني هذا أن الجيش الروسي صار أفضل من جيشنا؟ كلا على الإطلاق، فإن قاتلنا روسيا اليوم، نفوز بالتأكيد. يتألف جيشنا من قوات عالية التدريب تضم نصف مليون جندي، في حين أن ثلثي جنود فلاديمير بوتين الثمانمئة ألف شباب مهاراتهم القتالية مشكوك فيها لأنهم يلتحقون بالجيش لسنة واحدة ضمن إطار الخدمة الإلزامية، فضلاً عن ذلك لا يضاهي سلاح الجو الروسي قوتنا الجوية، لكن التجربة الأوكرانية تُظهر أن أي صراع من هذا النوع سيؤدي إلى إراقة دماء كثيرة.

يجب أن نتعلّم درساً تحذيرياً مهماً من التراجع الكبير في قوة أحد فروع جيشنا، بعد أن شكّل طوال زمن ذراعه الأكثر فتكاً، ويأتي هذا الانخفاض في قدرة جيشنا الأوروبي على خوض المعارك في وقت غير مؤاتٍ لا سيما بعد أن شكك المرشح الرئاسي دونالد ترامب علانية بقيمة الدفاع عن أوروبا، وتنفق إدارة أوباما مئات المليارات من الدولارات على أنظمة ضخمة عالية التقنية صُممت للقتال في البحر في آسيا. ولكن في حروب اليوم تنجح الأسلحة الأقل تطوراً، مثل الأسلحة الصغيرة، والألغام، والمدفعية في قتل عدد أكبر من جنودنا، أضف إلى ذلك تخلينا عما كان سابقاً قدرة قتالية أميركية عالية جداً، ولا شك أنك تستطيع تخيل العواقب المميتة التي قد تسفر عن نوايانا الحسنة.

* روبرت سكايلز