زويل في رحاب الله
أعتذر لك ولأسرتك أن يأتي رثائي لك متأخرا بأيام مضت كأنها الدهر كله، وقد ذوى نورك وانطفأت شمعتك التي أضاءت على العالم كله، بالضوء الذي عشت حياتك العلمية كلها تكشف أستاره وتذيع أسراره، فقد كانت فجيعتي وفجيعة العلم والعالم والإنسانية قبل مصر فيك، أكثر من أن تترك الهدوء إلى نفس تريد أن توفيك حقك من الرثاء والبكاء، فلم يكن يطاوعني القلم في أن أرثيك، وقد رثاك قبلي العالم كله، ولم يكن الدمع يطاوعني وقد بكتك قبلي الإنسانية كلها، حتى لا يقال قد رثاك وبكاك صغير.ولكن هذه الأيام لم تمض سدى فقد عكفت خلالها على قراءة رحلتك عبر الزمن في الطريق إلى جائزة نوبل، فكان طريقك إرادة وعزما وتصميما، ونجاحا إثر نجاح وإنجازا إثر إنجاز إلى إعجاز أذهل العلماء جميعا في العالم كله عندما تحدث الزمن بمقياسك الزمني الجديد الفمتو ثانية. ولنروي رحلتك عبر الزمن كما رويتها أنت من البداية حتى النهاية:جمال عبدالناصر توقع لزويل مستقبلاً زاهراً
وسجل زويل في طريقه إلى جائزة نوبل كلمة وفاء للرئيس جمال عبدالناصر، فقد تلقى منه رسالة وهو في العاشرة من عمره يتوقع له فيها مستقبلا زاهرا، وهي بخط يده ومودعة بمكتبه بقصر القبة، ويدعو له فيها بأن يحفظه الله ليكون عدة الوطن، ويوصيه بالمثابرة على تحصيل العلم مسلحاً بالأخلاق الكريمة ليساهم في بناء مصر الخالدة.وكانت رسالة الرئيس الراحل ردا على رسالة زويل إليه التي قال له فيها: "ربنا يوفقك ويوفق مصر".كتبها زويل بعد أن استمع إلى خطاب من الرئيس الراحل يقول فيه "بأن لكل مواطن، ابن الفلاح وابن رئيس الجمهورية، الحق في دخول نفس الجامعة".فقد كان زويل ولدا لموظف بسيط، ولم يكن يلتحق بالجامعة وقتئذ- وهو ما سجله في طريقه إلى نوبل- إلا من كان والده من ملاك الأراضي أو الأثرياء أو باستخدام النفوذ.زويل وطه حسين
ولم يفت زويل– في رحلته عبر الزمن– أن الدكتور طه حسين هو الذي قاد ثورة العلم للفقراء، قبل ثورة 23 يوليو، وقت أن كان وزيرا للتربية والتعليم، في عام 1950 قبل ثورة يوليو، لكنه استدرك بعد ذلك ليقول لخيري رمضان في برنامجه على إحدى الفضائيات، إن مجانية التعليم في الجامعة لا تجوز أن تمنح لطالب يدخلها في سيارة مرسيدس، ولا يدفع سوى خمسة عشر جنيها مصروفات الدراسة الجامعية، فقد بدا زويل يحس بالتفاوت الطبقي الكبير الذي عاد إلى مصر في عصر مبارك ولا يزال حتى الآن ينهش في نسيج المجتمع.ويل لطالب العلم إن رضي
وكان زويل قد تأثر بالدكتور طه حسين، عميد الأدب العربي، في قوله "ويل لطالب العلم إن رضي عن نفسه"، وفي هذا السياق يقول زويل: من أجمل الأشياء التي سعدت بها جدا أنني فزت بجائزة نوبل في الكيمياء في سن صغيرة بالنسبة إلى من يحصلون عليها، لأستكمل أبحاثي في الجينات الوراثية. لذلك عكف على أبحاثه العلمية بعد اختراعه تلسكوب الفمتو ثانية عام 1987 والذي نال عنه جائزة الملك فيصل عام 1988، إلى أن نال جائزة نوبل لعام 1998، واستمر منكباً على هذه الأبحاث إلى أن رحل إلى مثواه الأخير في تراب مصر التي أحبها وعاش هائما في عشقها، قبل أن ينتهي من بحثه الكبير الكتاب الجيني للإنسان أو ما يعرف بالشفرة الإنسانية الحمض النووي DNA وهو بحث سيطلق ثورة ضخمة في عالم الطب تبدأ بتدعيم وسائل الدفاع عن الإنسان ضد الأمراض، ولا تنتهي عند مجرد القدرة على تغيير الصفات الوراثية لشعوب بأكملها، (وبالفعل حقق د. زويل نجاحات غير مسبوقة في هذا البحث).العلم لأجل الذين لا يملكون
ولهذا كان أحد زوايا مثلث الرؤية لدى زويل، والضلع الثالث من أضلاع المثلث، والذي كان يأخذ قدرا كبيرا من وقته، في الطريق إلى جائزة نوبل، هو ما أسماه "العلم لأجل الذين لا يملكون". فقد رأى أنه بإمكانه أن يسهم في رعاية العلم وتشجيعه في العالم النامي، وفي إيجاد مشاركة حقيقية وفعالة في هذا المجال بين هذا العالم والعالم المتقدم.وقد اعتبر هذه الزاوية من مثلث الرؤية لديه مسألة مهمة وحيوية بالنسبة إلى مصر، فاتجه بكل ما يملكه من وقت وجهد وعلم إلى إنشاء مدينة للعلم والتكنولوجيا في مصر، فكان يحضر إلى مصر كل ستة أسابيع قبل مرضه اللعين ليعكف فيها ستة أسابيع أخرى ليستكمل هذا الصرح الشامخ... أسوق ذلك رداً على من قالوا: ماذا فعل لمصر؟زويل وأم كلثوم
ويحكي في طريقه إلى جائزة نوبل، كيف حزن لفراق أم كلثوم حزنا عميقا عندما تلقى خبر وفاتها، وهو يستمع إلى الإذاعة المصرية في فبراير عام 1975، كما حزن لفراقها عشرات الملايين من الوطن العربي، وقد شيعت إلى مثواها الأخير في جنازة رهيبة سار فيها نحو أربعة ملايين مواطن.وإنه أخذ يستمع إلى أغنية الأطلال مرارا وتكرارا، ليعزي نفسه عن فراقها، أن ظلها هو الباقي، وغناها سوف يظل ببعث الفرحة والسعادة، لأنها وإن غابت بجسدها فإنها سوف تعيش معنا بفنها وتراثها الفني.ذلك أن زويل وإن كان عالما، في محراب العلم هائما، وعن ملذات الدنيا ومباهجها زاهدا، إلا أنه كان إنسانا مرهف الحس جياشا بالعواطف الراقية التي تستعذب صوت أم كلثوم وأغانيها العاطفية والدينية والوطنية، التي لازمته– كما قال– من دراسته في كل مراحل تعليمه منذ المرحلة الإعدادية، وخلال أبحاثه العلمية المتطورة التي أوصلته إلى جائزة نوبل، فقد كان يحس في هذا الصوت بدفء مصر وحبها ليواصل أبحاثه العلمية.وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.