ما بين مصر وتركيا

نشر في 14-08-2016
آخر تحديث 14-08-2016 | 00:07
يمكن أن تعود العلاقات بين مصر وتركيا إلى سابق عهدها، ويجب أن تعود، لكن هذا الأمر مرهون بأن يحترم النظامان خيارات شعبيهما.
 ياسر عبد العزيز ربما ليس هناك ما هو أفضل من المثل المصري الرائج "لا أحبك، ولا أقدر على بعدك"، لوصف العلاقة التي تربط بين مصر وتركيا.

فبعيداً عن التصريحات الحادة والمنفلتة التي تصدر بانتظام على لسان الرئيس إردوغان، تحرص الدولة التركية على إبقاء الباب موارباً، في محاولة لاستعادة العلاقات مع الجارة الشرق أوسطية المهمة مصر.

في المقابل يبدو أن مصر الرسمية تعاني كثيراً من الانتقاد والهجوم والتجاهل التركي، لكنها في الوقت ذاته لا تتورط في الهجوم المضاد، ولا تبادر باستخدام اللغة الحادة، مكتفية بالرد المتناسب مع الاستهدافات التركية، كلما كان الرد لازماً، ومبقية، في الوقت ذاته، الباب موارباً.

قبل أيام عقد الرئيسان بوتين وإردوغان قمة في روسيا، تناولا خلالها عدداً من الموضوعات التي تتعلق بالإقليم، وقد رشحت عن المحادثات التي دارت في تلك القمة أنباء عن جهود بذلها الزعيم الروسي للتوفيق بين القاهرة وأنقرة.

يوم الخميس الماضي، أراد وزير الخارجية التركي مولود أوغلو أن يتحدث عن علاقات بلاده بمصر، فقال ما يلي: "مصر كانت سبباً في العلاقات غير الجيدة بين تركيا من جانب والسعودية والإمارات من جانب آخر. نتمنى تطوير العلاقات مع القاهرة، لكن ممارسات النظام الحالي ستضر بأوضاع البلاد، نريد أن نرى مصر عظيمة، لكنها ستنهار إذا أوقفت الدول دعمها. إذا أرادت مصر أن تتخلى عن الهشاشة الداخلية التي تعيشها فعليها إنشاء ثقافة مبنية على المصالحة، وحينئذ سيمكننا مساعدتها، حتى في الوضع الراهن هناك إمكانية لإجراء لقاءات على مستوى الوزراء".

هذا الكلام شديد التضارب لكنه أيضاً شديد الوضوح، ويكاد يكون تعبيراً أميناً عن المثل الذي يتصدر هذا المقال: "لا أحبك ولا أقدر على بعدك".

ما يوضحه هذا التصريح بجلاء شديد هو أن هذا البعد يمكن أن ينتهي، وهذا الحب يمكن أن يعود، والأمر كله مرتبط بـ "الإخوان"، الذين أشار إليهم أوغلو برمز "المصالحة".

في يوم 2 أغسطس الجاري نشرت "المصري اليوم" القاهرية حواراً مع القائم بالأعمال التركي لدى القاهرة السفير علي رضا غوناي، تعليقاً على أحداث المحاولة الانقلابية التي شهدتها بلاده أخيراً، وموقف مصر منها.

يريد الدبلوماسي التركي أن يعطي انطباعاً بأن بلاده تضررت وتأذت بسبب الموقف المصري حيال المحاولة الانقلابية، حتى إنه قال "صمت مصر جرح قلب الأمة التركية".

إن الكلام عن "جروح القلب" من جراء المواقف السياسية السيئة لا يصب في مصلحة الجانب التركي حين يأتي الحديث عن العلاقات الثنائية مع مصر، فثمة قطاع مؤثر من المصريين يشعر أن تركيا تحت رئاسة إردوغان تضمر الشر لمصر، وتمارس سياسات مضرة بأمنها القومي، كما يشعر هؤلاء المصريون أن ما يهم إردوغان في مصر ليس سوى "الإخوان"، الذين بالطبع فقدوا الكثير من الشعبية والاعتبار في بلدهم وفي المنطقة، وهو أمر يبدو أن الجميع أدركه باستثناء إردوغان نفسه.

في شهر أبريل الماضي نشرت وسائل إعلام دولية أخباراً عن مقتل القيادي المصري في الجماعة الإسلامية رفاعي أحمد طه، في غارة أميركية على الأراضي السورية، حيث كان هذا الأخير في مهمة للوساطة بين "جبهة النصرة" وتنظيم "أحرار الشام".

وباختصار شديد يمكن القول إن رفاعي طه من قيادات العمل المسلح الذي استهدف الدولة والشعب في مصر على مدى عقود، فضلاً عن تاريخه في العمل إلى جانب تنظيم "القاعدة" في معية أسامة بن لادن وأيمن الظواهري.

رفاعي طه من مؤسسي الجماعة الإسلامية، وتولى رئاسة مجلس الشورى بها في التسعينيات الفائتة، ورفض لاحقاً مبادرة "وقف العنف" التي أعلنتها الجماعة، وتنقل هارباً بين السودان وأفغانستان ودول أخرى، وتم اعتقاله بواسطة الإنتربول في سورية، قبل أن يفرج عنه الرئيس الأسبق محمد مرسي ضمن ثلة من "الجهاديين"، لينخرط مع زميله محمد شوقي الإسلامبولي في جهود دعم الرئيس وتنظيم "الإخوان".

هرب رفاعي إلى خارج مصر في أعقاب فض تجمعي "رابعة" و"النهضة"، وراح يشن حروبه ضد الدولة المصرية، ويمارس أدواره في قيادة بعض الفصائل "الجهادية" ودعمها في سورية، وهي فصائل تصفها الولايات المتحدة ومعظم دول الغرب بأنها "إرهابية".

من أين دخل رفاعي إلى الأراضي السورية؟ وفي أي مكان كان يواصل أنشطته المعادية للدولة المصرية؟ كان رفاعي، ومعه العشرات من قيادات الجماعات "الجهادية" الموصوفة بـ"الإرهاب" يعيش في كنف إردوغان في إسطنبول.

وبحسب ما نشرت "واشنطن بوست" وصحف غربية ومراكز أبحاث عدة، فقد كانت إقامته علنية، وتنقلاته مؤمّنة، وظهوره على وسائل الإعلام متاحاً، وحضوره الفعاليات السياسية متكرراً.

أتاح إردوغان لعدد من القنوات التلفزيونية أن تنطلق من بلاده، لتمثل تنظيم "الإخوان"، وتشن هجوماً سافراً ضد الدولة والشعب في مصر، وتحرض على العنف والإرهاب وقتل الأبرياء، كما أتاح لرفاعي طه، ومثله العشرات، العيش والتنقل والعمل "الجهادي"، والذهاب إلى سورية لتأدية أدوار توفيقية بين الجماعات "الإرهابية" التي تدعمها بلاده، أو تحرص على إبقاء خطوط الاتصال معها قائمة.

مصر الرسمية تصرفت بحنكة وموضوعية إزاء المحاولة الانقلابية الفاشلة في تركيا؛ فقد تفادت التعليق، حتى لا تتورط في دعم "انقلاب عسكري ملتبس"، ولا تتورط في دعم نظام "يناصبها العداء ويحمي الإرهابيين ويحرض ضد سلمها الأهلي ووحدتها الوطنية".

وإلى جانب ذلك استخدمت القاهرة أدواتها الدبلوماسية المتاحة، فعرقلت إصدار بيان لمجلس الأمن ينص على "تأييد حكومة إردوغان المنتخبة ديمقراطياً، خصوصاً وقد كانت تلك الحكومة تقوم بإجراءات أبعد ما تكون عن الديمقراطية، تذرعاً بمحاولة الانقلاب الفاشلة.

يريد القائم بالأعمال التركي أن يتهم المصريين بجرح قلب الأمة التركية لأنهم، دولة وشعباً، لم ينخرطوا في كتائب التأييد لإردوغان، ولا يسأل نفسه عن الجروح التي سببتها السياسة الإردوغانية للمصريين بدعمها للإرهابيين وإيوائهم واحتقارها للإرادة الوطنية للشعب المصري.

يمكن بالطبع أن تعود العلاقات بين مصر وتركيا إلى سابق عهدها، وهي يجب أن تعود، لكن هذا الأمر مرهون بأن يحترم النظامان خيارات كل شعب، وأن يُخرج إردوغان "إخوانه" من المعادلة.

* كاتب مصري

back to top