تمضي الرسائل
![فوزي كريم](https://storage.googleapis.com/jarida-cdn/images/1498033753948674500/1498033754000/1280x960.jpg)
لقد رأيتُ بمزيد من الوضوح كم تقود "الأفعال"، أفعالك، إلى المشاركة، وكم تقود "الكلمات"، كلماتي، إلى العزلة. أنت تغنين صوتاً يخترق حجبَ الصمتِ في كل اتجاه، بصحبة عازف بوقٍ يحاوركِ، يحاذيكِ أو يقاطعكِ، وبرعاية ثالث هو المؤلف الذي يتابع النوتةَ الرقمية، كيف تتحول على خيوط حنجرتِكِ وعبر مفاتيح الآلة النحاس، إلى لحن. مشاركة كهذه تحسِدُكِ عليها حتى الطيور. أما "الكلمات"، فتُقبل على الشاعر بأجنحة من صمت، داخل بهوٍ في الرأس صامتٍ، وبصمتٍ تهبط على الورق. ويظل الصمت القاهر يَصحبها، وهي ترحل إلى الناشر، ثم إلى القارئ، ثم إلى الذاكرة أو النسيان. وليس عبثا أن يُقرن هذا الصمت بتساقط أوراق الخريف على الأرض الرطبة. وهو إلى جانب هذا صمت يستدعي عزلة؛ والعزلة تتواصل متماسكة، ما دام الشاعر شاعراً. إنها عزلة يتطلبها الشعر؛ وهي عزلة تُفرض على الشاعر، فيُضطر إلى الحيرة، وتأمّلِ النجوم. "الأفعال" هي التي شغلتكِ عني، وعن الكتابة إليَّ إذن. و"الكلمات" هي التي ألّبت فيَّ التطلع إليك، خارج صمت العزلة. لكن هذه المعادلة، التي تبدو تراجيدية، سرعان ما تتعارض مع ذاتها، بصورة عابثة، لتقود إلى نتيجة معاكسة تماماً. فأنا الذي أكتب الرسائل إليك هذه المرة. أليس هذا "فعلاً" أو يشبه الفعل؟ ولا أحصد من طرفك إلا الصمت. ألا يشبه هذا الصمت صمتَ "الكلمات"؟ هاجس كهذا ألمَّ بي في منتصف عام 2002، وأملى عليَّ قصيدةً نشرتُها في مجموعة "آخر الغجر"، بعنوان "تمضي الرسائل". هذا الهاجس بشأن معادلة الرسالة والصمت، أخذ مدىً في القصيدة ما كان في الحسبان: "لمَ أكتبُ وحدي الرسائلَ في كلِّ شهرٍ؟أحاولُ أنْ أستجيبَ لصمتكِ، إذْ أدعي أنَّ صمتَكِ أبلغُ مما أحاول.............تمضي الرسائل من طرف واحد، ويواصل صمتُكِ من طرف،وتراوح بينهما دورة الأرض، والشمس؛ حتى التواريخ تكتب باسمهما، وتدول الدول!"كنتُ أحلم منذ صباي أن أصير موسيقياً. كنت أزعم أن عواطف الموسيقيِّ تفيض وتخرج دون وسيط، إلا هذا التجريد الذي نسميه صوتاً. ثم صرت شاعراً، أتمرّغُ طيلة حياتي في صراع مع وسيط غير طيّع، هو اللغة. ثم استعنت بالرسم، ولكن الألوان عصية شأن اللغة. اليوم، حين أكتبُ قصيدتي على الكمبيوتر أشعر بلذة التماسِّ بين أصابعي والمفاتيح؛ لعلها لذاذةُ البيانو المفتقدة. ولكني الآن أكتشف، بفضل رسالتك المتأخرة، أن العزلة التي يفرضها الشعر على الشاعر تتطلع إلى فعل المشاركة التي ينعم بها الموسيقي.