«اشتباك»

نشر في 16-08-2016
آخر تحديث 16-08-2016 | 00:00
 مجدي الطيب عقب نشر مقال {انقسام} قال صديقي: {ويحك يا رجل.. أترصد كل هذا الزخم الحاصل على الساحة بسبب فيلم {اشتباك}، من دون أن تسجل رأيك الشخصي في الفيلم؟}، فبادرته بصرامة: {لو أنك تمعّنت في قولي}.. ولنا عودة}، لأدركت أنني اتخذت قراراً بتأجيل كتابة رأيي إلى ما بعد التنويه إلى الانقسام الذي أحدثه}!

الآن أقولها على الملأ إن مجرد اجتماع، واتفاق، التقدميين والراديكاليين وتيار الإسلام السياسي، على استهداف فيلم {اشتباك}، والهجوم عليه بضراوة، يبرئ ساحة الفيلم، وينفي عنه الاتهام بالانحياز إلى طرف (الشرطة) دون الآخر (الإخوان وجماعات الإسلام السياسي) أو العكس، أو العمل لحساب {أجندة خارجية} (تعدد مصادر تمويل الفيلم من جهات أجنبية)، ويؤكد – ثالثاً - موضوعيته ورصانته، فالفيلم من تلك النوعية التي توصف بأنها {متقنة الصنع}، سواء بلغته السينمائية أو توجهه الإنساني، فمن خلال طريقة سرد اتسمت بالجدة والجدية والطزاجة تحدث الشقيقان {دياب} عن {الاستقطاب} الذي يعيشه المجتمع المصري في الأعوام الأخيرة، وعبر اختيار عربة الترحيلات التي تضم القوى السياسية والاجتماعية الظالمة والمظلومة كافة ومختلف الأجيال (الطفل والشاب والشيخ والمرأة)، يمرّر الفيلم رسالته، مع الإشارة ذات المغزى إلى {الوقوف المتكرر للعربة}. ومع الصوت المخنوق ونحيب الناي، تعكس موسيقى خالد داغر أجواء الشجن، والقهر، التي يعيشها المجتمع، مثلما تُحدد الملابس (ريم العدل) الانتماءات الطبقية، والعقائدية، للشخصيات، وتكتمل رسائل الفيلم العاصف بالحركة المرتبكة للكاميرا (أحمد جبر) والمونتاج الدقيق الصارم (أحمد حافظ)، والجدية التي تبكيك وتضحكك في آن، وهي السمة التي تُضفي على الفيلم صبغة إنسانية خالصة، كما تمنحه واقعية غير مصنوعة ولا مفتعلة!

أهم ما في {اشتباك}، وهو ما كان ينبغي الالتفات إليه، بدلاً من الدخول في مهاترات ساذجة في ما يتعلق بتصنيفه، أن انحيازه واضح للإنسانية، والديمقراطية، ونبذ العنف في مواجهة الرأي، سواء كانت الدولة هي التي تتبنى هذا العنف أو فصيل الإسلام السياسي في أول قفزة له على سدة الحكم، فالانقسام – كما يرى الفيلم– هو الآفة التي تعجل بتدمير المجتمعات، ولم الشمل هو السبيل الوحيد لمواجهة الدكتاتورية، وكبت الحرية، وربما لهذا السبب كان غضب المخرج محمد دياب من الجملة التي أصرّت الرقابة على تصدير الفيلم بها، وتُشير إلى أن {أحداث الفيلم تدور في يوم من الأيام التي أعقبت إسقاط حكم الإخوان بين التظاهرات المؤيدة لهم والمعارضة}، فالمخرج أراد إلا يسجن نفسه في هذه الزاوية الضيقة، ولم يكن يعنيه الحديث عن ثورة 2011 التي أنهت حكم مبارك، وانتخابات 2012 التي جاءت بحكم الإخوان المسلمين، الذين انتفض الشعب المصري ضد حكمهم، وانحاز إليه الجيش، لكنه أراد التحذير من محاولات تستهدف استقطاب فصائل المجتمع وطوائفه، وإغراقه في طوفان من الجدل حول الطرف الأحق بحكم الشعب ليهيمن عليه، وينكل به!

وظّف {دياب} كل ما لديه، في حدود ما تقتضيه الظروف المحيطة التي فرضتها طبيعة الفيلم الذي لا تخرج أحداثه عن عربة الترحيلات، باستثناء لقطات نادرة، ليصنع فيلماً أخاذاً، فالليزر الذي كان يستخدمه المتظاهرون بكثرة إبان الأحداث أضفى على الصورة إبهاراً أصيلاً، وليس دخيلاً أو مصنوعاً، والنوافذ الضيقة، رغم كثرتها (أربع جانبية والخامس في سقف العربة) بما يتناقض والواقع، منحت الفيلم، والأبطال والجمهور، مساحة للتنفس، والتواصل مع العالم في الخارج، وكذلك فعل المصباح الوحيد الذي تكررت أعطاله. فضح الفيلم أيضاً، ربما من دون أن يدري، تورّط جهات أجنبية في تأجيج الثورات، بحجة دعمها (مراسل ومصور {الأسوشيتد برس} وساعة المعصم التي تتحوّل إلى كاميرا سرية كالتي يحملها الجواسيس)، وسخّر أيضاً من النظرة الضيقة، والمتعصبة، للمنتمين إلى تيار الإسلام السياسي (نظرة متعالية إلى المجتمع، وإصرار فج على التقسيم وإعلاء مبدأ السمع والطاعة في أحلك الظروف)، وحذّر من القهر الأمني الذي يوشك أن ينقلب على رجاله أنفسهم (مشهد تمرد الجندي على أوامر قادته، وتعاطفه مع المعتقلين)، واتسم الحوار بسخرية لاذعة، وطرافة محببة، وواقعية تدعونا إلى إعادة النظر في مفهوم {الواقعية}، وتقودنا إلى مرحلة ما بعد {الواقعية الجديدة}!

وضع {اشتباك} ما يمكن تسميته {روشتة إنقاذ الوطن} بدعوته إلى {الاصطفاف}، ونبذ الطائفية (في مشهد عابر تكاد تعرف أن عائلة الممرضة {نجوى} مسيحية)، والتخلي عن العنجهية المقيتة من المتحدثين باسم الدين، والتخلص من أمراض المجتمع كالانتهازية والوصولية والنفاق وتملق السلطة، واتقاء السموم التي يبثها البعض كالهروب من الخدمة العسكرية. لكن الفيلم لم يخل من التنميط في اختيار الأسماء الدينية مثل: {معاذ}، {حذيفة}، {طلحة}، {عائشة} و«حمزة}، وربما أراد الإشارة إلى تنامي الظاهرة، وكان متوازناً في إظهار قسوة رجال الأمن، وإنسانية بعضهم. وتأتي نهاية الفيلم الكارثية لتحذّر من خطر ماحق يتهدّد الوطن!

back to top